﴿ فِرْعَوْنَ ﴾ هي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى فعذبها فرعون بالأوتاد الأربعة ﴿ إِذْ قَالَتْ ﴾ [آل عمران : ٣٥] وهي تعذب ﴿ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ ﴾ [التحريم : ١١] فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان فعبرت عنها بقولها عندك ﴿ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ﴾ [التحريم : ١١] أي من عمل فرعون أو من نفس فرعون الخبيثة وخصوصاً من عمله وهو الكفر والظلم والتعذيب بغير جرم ﴿ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ ﴾ [التحريم : ١١] من القبط كلهم، وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين
٣٩٨
﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ من الرجال ﴿ فَنَفَخْنَا ﴾ فنفخ جبريل بأمرنا ﴿ فِيهِ ﴾ في الفرج ﴿ مِن رُّوحِنَا ﴾ [الأنبياء : ٩١] المخلوقة لنا ﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـاتِ رَبِّهَا ﴾ [التحريم : ١٢] أي بصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره ﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ بصري وحفص، يعني الكتب الأربعة ﴿ وَكَانَتْ مِنَ الْقَـانِتِينَ ﴾ [التحريم : ١٢] لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه.
و " من " للتبعيض، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخ موسى عليهما السلام.
ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعدى أعداء الله، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً.
وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين وأن لا يتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
٣٩٩
سورة الملك
مكية وهي ثلاثون آية نزلت بعد الطور
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ تَبَـارَكَ ﴾ تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين ﴿ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك : ١] أي بتصرفه الملك والاستيلاء على كل موجود وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاءجزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٠٠
﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ ﴾ [سبأ : ٤٧] من المقدورات أو من الإنعام والانتقام ﴿ قَدِيرٌ ﴾ قادر على الكمال ﴿ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ ﴾ [الملك : ٢] خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الذي قبله ﴿ وَالْحَيَواةَ ﴾ أي ما يصح بوجوده الإحساس والموت ضده، ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، والمعنى خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾ ليمتحنكم بأمره ونهيه فيما بين الموت الذي يعم الأمير والأسير والحياة التي لا تفي بعليل ولا
٤٠٠
طبيب فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم ﴿ أَيُّكُمْ ﴾ مبتدأ وخبره ﴿ أَحْسَنُ عَمَلا ﴾ [الكهف : ٧] أي أخلصه وأصوبه، فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة.
والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح فما وراءه إلا البعث والجزاء الذي لا بد منه.
وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى المسوق له الآية أهم.
ولما قدم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف، قدم صفة القهر على صفة اللطف بقوله ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ [إبراهيم : ٤] أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل ﴿ الْغَفُورُ ﴾ الستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل.