سورة فاتحة الكتاب
وجه التسمية بفاتحة الكتاب إما لافتتاح المصاحف والتعليم وقراءة القرآن والصلاة بها وإما لأن الحمد فاتحة كل كلام وإما لأنها أول سورة نزلت وإما لأنها أول ما كتب في اللوح المحفوظ وإما لأنها فاتحة أبواب المقاصد في الدنيا وأبواب الجنان في العقبى وإما لأن انفتاح أبواب خزائن أسرار الكتاب بها لأنها مفتاح كنوز لطائف الخطاب بانجلائها ينكشف جميع القرآن لأهل البيان لأن من عرف معانيها يفتح بها أقفال المتشابهات ويقتبس بسناها أنوار الآيات وسميت بأم القرآن وأم الشيء أصله لأن المقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة : إقرار بالألوهية والنبوة وإثبات القضاء والقدر تعالى فقوله :
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ يدل على الألوهية وقوله :
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يدل على المعاد وقوله :
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ على نفي الجبر والقدر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله تعالى، وسميت بالسبع المثاني لأنها سبع آيات أو لأن كل آية منها تقوم مقام سبع من القرآن فمن قرأها أعطي ثواب قراءة الكل أو لأن من فتح فاه بقراءة آياتها السبع غلقت عنه أبواب النيران السبعة هذه وجوه التسمية بالسبع وأما بالمثاني : فلأنها تثنى في كل صلاة أو في كل ركعة بالنسبة إلى الأخرى أو المراد تشفع في كل ركعة سورة حقيقة أو حكماً أو لأن نزولها مرتين مرة في مكة ومرة في المدينة، وسميت بسورة الصلاة وسورة الشفاء والشافية وأساس القرآن والكافية والوافية وسورة الحمد وسورة السؤال وسورة الشكر وسورة الدعاء لاشتمالها عليها وسورة الكنز لما يروى أن الله تعالى قال :"فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشي".
﴿الْحَمْدُ﴾ لامه للعهد أي : الحمد الكامل وهو حمد الله أو حمد الرسل أو كمل أهل الولاء أو للعموم والاستغراق أي : جميع المحامد والاثنية للمحمود أصلاً والممدوح عدلاً والمعبود حقاً عينية كانت تلك المحامد أو عرضية من الملك أو من البشر أو من غيرهما كما قال تعالى :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ (الإسراء : ٤٤) والحمد عند الصوفية : إظهار كمال المحمود وكماله تعالى صفاته وأفعاله وآثاره.
قال الشيخ داود القيصري : الحمد قولي وفعلي وحالي أما القولي : فحمد اللسان وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه على لسان أنبيائه عليهم السلام وأما الفعلي : فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء لوجه الله تعالى وتوجهاً إلى جنابه الكريم لأن الحمد كما يجب على الإنسان باللسان كذلك يجب عليه بحسب كل عضو بل على كل عضو كالشكر وعند كل حال من الأحوال كما قال النبي عليه السلام :"الحمدعلى كل حال" وذلك لا يمكن إلا باستعمال كل عضو فيما خلق لأجله على الوجه المشروع عبادة للحق تعالى وانقياداً لأمره لا طلباً لحظوظ النفس ومرضاتها وأما الحالي : فهو الذي يكون بحسب الروح والقلب كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية والتخلق بالأخلاق الإلهية لأن الناس مأمورون بالتخلق بأخلاق الله تعالى بلسان الأنبياء عليهم السلام لتصير
١٠
الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم وفي الحقيقة هذا حمد الحق أيضاً نفسه في مقامه التفصيلي المسمى بالمظاهر من حيث عدم مغايرتها له وأما حمده ذاته في مقامه الجمعي الإلهي قولاً فهو ما نطق به في كتبه وصحفه من تعريفاته نفسه بالصفات الكمالية وفعلاً فهو إظهار كمالاته الجمالية والجلالية من غيبه إلى شهادته ومن باطنه إلى ظاهره ومن علمه إلى عينه في مجالي صفاته ومحال ولاية أسمائه وحالاً فهو تجلياته في ذاته بالفيض الأقدس الأولى وظهور النور الأزلي فهو الحامد والمحمود جمعاً وتفصيلاً كما قيل :
لقد كنت دهراً قبل أن يكشف الغطا
أخالك أني ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهداً
بأنك مذكور وذكر وذاكر
وكل حامد بالحمد القولي يعرف محموده بإسناد صفات الكمال إليه فهو يستلزم التعريف انتهى كلامه.
والحمد شامل للثناء والشكر والمدح ولذلك صدر كتابه بأن حمد نفسه بالثناء في الله والشكر في رب العالمين والمدح في الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم ليس للعبد أن يحمده بهذه الوجوه الثلاثة حقيقة بل تقليداً ومجازاً ؛ أما الأول فلأن الثناء والمدح بوجه يليق بذاته أو بصفاته فرع معرفة كنههما وقد قال الله تعالى :﴿وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا﴾ (طه : ١١٠) ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ (الزمر : ٦٧) وأما الثاني فكما أن النبي عليه السلام لما خوطب ليلة المعراج بأن أثننِ علي قال :"لا أحصي ثناء عليك" وعلم أن لا بد من امتثال الأمر وإظهار العبودية "فقال : أنت كما أثنيت على نفسك" فهو ثناء بالتقليد وقد أمرنا أيضاً أن نحمده بالتقليد بقوله :﴿قُلِ الْحَمْدُ﴾ (النمل : ٥٩) كما قال :﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن : ١٦) كذا في "التأويلات النجمية".
قال السعدي قدس سره :