سورة الأحقاف
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦٠
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١
﴿حم﴾ ؛ أي : هذه السورة مسماة بـ﴿حم﴾.
وقال بعضهم : الحاء إشارة إلى حماية أهل التوحيد.
والميم إلى مرضاته منهم مع المزيد، وهو النظر إلى وجهه الكريم.
وقال بعضهم : معناه حميت قلوب أهل عنايتي فصنتها عن الخواطر والهواجس فلاح فيها شواهد الدين وأشرقت بنور اليقين.
يقول الفقير : فيه إشارة إلى أن القرآن حياة الموتى، كما قال أو كلم به الموتى.
وكذا حياة الموتى من القلوب، فإن العلوم والمعارف والحكم حياة القلوب والأرواح والأسرار.
وأيضاً إلى الأسماء الحسنى، فإن حاء وميم من حساب البسط تسعة وتسعون وأيضاً إلى الصفات السبع التي خلق الله آدم عليها، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.
فالحاء حاء الحياة والميم ميم الكلام، فأشير بالأول والآخر إلى المجموع، يعني أن الله تعالى أنزل القرآن لتحصي أسماؤه الحسنى، وتعرف صفاته العليا ويتخلق بأخلاقه العظمى.
﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ﴾ ؛ أي : القرآن المشتمل على هذه السورة، وعلى سائر السور الجليلة.
وبالفارسية :(فردستان كتاب بعضى از بى بعض).
وهو مبتدأ خبره قوله :﴿مِنَ اللَّهِ﴾ وما كان من الله فهو حق وصدق، فإنه قال : ومن أصدق من الله قيلاً ﴿الْعَزِيزُ﴾ وما كان من العزيز، فهو عزيز غالب على جميع الكتب بنظمه ومعانيه، ودليل ظاهر لأرباب الظواهر والباطن.
﴿الْحَكِيمُ﴾ : وما كان من الحكيم، ففيه حكمة بالغة ؛ لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة كما قال :﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ﴾ (الحجر : ٨٥) بما فيهما من حيث الجزئية منهما، ومن حيث الاستقرار فيهما.
﴿وَمَا بَيْنَهُمَآ﴾ من المخلوقات كالنار والهواء والسحاب والأمطار والطيور المختلفة ونحوها.
﴿إِلا﴾ خلقاً ملتبساً ﴿بِالْحَقِّ﴾ ؛ أي : بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وإن جعلها مقراً للمكلفين ليعملوا، فيجازيهم يوم القيامة لا بالعبث والباطل ؛ فإنه ما وجد شيء إلا لحكمة، والوجود كله كلمات الله ولكل كلمة ظهر هو الصورة وبطن هو المعنى إلى سبعة أبطن، كما ورد في الخبر "لكل حق حقيقة"، فالوجود كله حق حتى أن النطق بكلمات لا معاني لها حق، فإنها قد وجدت.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١
والباطل هو المعنى الذي تحتها، كقول من يقول : مات زيد، ولم يمت، فإن حروف الكلمة حق، فإنها قد وجدت.
والباطل هو أن زيداً مات.
وهو المعنى الذي تحتها فالدنيا حق وحقيقتها الآخرة، والبرزخ وصل بينهما وربط.
ومن ها هنا يعرف قول علي رضي الله عنه : الناس نيام إذا ماتوا تيقظوا، فالرؤيا حق.
وكذا ما في الخارج من تعبيرها لكن كلاً منهما خيال بالنسبة إلى الآخرة لكونه من الدنيا، وكونه خيالاً، ومن الدنيا لا ينافي كونه حقاً، وإنما ينافي كونه حقيقة.
ولذا قال يوسف الصديق عليه السلام : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً.
وقال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : إنما الكون خيال، وهو حق في الحقيقة.
وفي الآية إشارة إلى أن المخلوقات كلها ما خلقت إلا لمعرفة الحق تعالى، كما قال قائل : فخلقت لخلق لأعرف.
وفي الحديث :"لو عرفتم الله حق
٤٦١
معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال، ولهذه المعرفة خلقت سماوات الأرواح وأراضي النفوس، وما بينهما من العقول والقلوب والقوى.
﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ عطف على الحق بتقدير المضاف ؛ أي : بتقدير أجل معين ينتهي إليه أمور الكل، وهو يوم القيامة، وذلك لأن اقتران الخلق ليس إلا به لا بالأجل نفسه.
وفيه إيذان بفناء العالم وموعظة وزجر ؛ أي : فانتبهوا أيها الناس، وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم؟
وإشارة بأن لكل عارف أجل مسمى لمعرفته وأكثره في هذه الأمة أربعون سنة، فإنها منتهى السلوك، فلا يغتر العبد بعلمه وعرفانه، فإنه فوق كل ذي علم عليم، ولكل حد نهاية، والأمور مرهونة بأوقاتها وأزمانها.
وهذا بالنسبة إلى من سلك على الفطرة الأصلية وعصم من غلبة أحكام الإمكان، وإلا فمن الناس من يجتهد سبعين سنة، ثم لا يقف دون الغاية، ثم إنه فرق بين أوائل المعرفة وأواخرها، فإن حصول أواخرها يحتاج إلى مدة طويلة بخلاف أوائلها إذ قد تحصل للبعض في أدنى مدة، بل في لحظة كما حصلت لسحرة فرعون ؛ فإنهم حيث رأوا معجزة موسى عليه السلام.
قالوا : آمنا برب العالمين.
حكي : أن إبراهيم بن أدهم قدس سره لما قصد هذا الطريق لم يك إلا مقدار سيره من بلخ إلى مرو الروذ حتى صار بحيث أشار إلى رجل سقط من القنطرة في الماء الكثير هنالك، فوقف الرجل مكانه في الهواء، فتخلص وإن رابعة البصرية كانت أمة كبيرة يطاف بها في سوق البصرة، ولا يرغب فيها أحد لكبر سنها، فرحمها بعض التجار، فاشتراها بنحو مائة درهم وأعتقها، فاختارت هذا الطريق وأقبلت على العبادة، فما تمت لها سنة حتى زادها زهاد البصرة وقراؤها وعلماؤها لعظم منزلتها، فهذه من العناية القديمة والإرادة الأزلية الغير المعللة بشيء من العلل :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١
فيض روح القدس ارباز مدد فرمايد
ديكران هم بكنند آنجه مسيحا ميكرد
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : لم يكن يتخلص عندي أحد الجانبين في مسألة خلق الأعمال وتعسر عندي الفصل بين الكتب الذي يقول به قوم، وبين الخلق الذي يقول به قوم، فأوقفني الله تعالى بكشف بصري على خلقة المخلوق الأول الذي لم يتقدمه مخلوق، وقال : هل هنا أمر يورث اللبس والحيرة.
قلت : لا يا رب، فقال لي : هكذا جميع ما نراه من المحدثات ما لأحد فيه أثر ولا شيء من المخلوق، فأنا الذي أخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، فتكون على أمري خلقت النفخ في عيسى وخلقت التكون في الطائر.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ؛ أي : مشركو أهل مكة ﴿عَمَّآ أُنذِرُوا﴾ به وخوفوا من يوم القيامة، وما فيه من الأهوال ﴿مُّعْرِضُونَ﴾ بترك الاستعداد له بالإيمان والعمل.


الصفحة التالية
Icon