فَصْل
وأما قول القائل : إن النبي ﷺ خص كل قوم بما يصلح لهم... إلخ، فهذا الكلام له وجهان :
إن أراد به أن الأعمال المشروعة يختلف الناس فيها بحسب اختلاف أحوالهم، فهذا لاريب فيه؛ فإنه ليس ما يؤمر به الفقير كما يؤمر به الغني، ولا ما يؤمر به المريض كما يؤمر به الصحيح، ولا ما يؤمر به عند المصائب هو ما يؤمر به عند النعم، ولا ما تؤمر به الحائض كما تؤمر به الطاهرة، ولا ما تؤمر به الأئمة كالذي تؤمر به الرعية، فأمر اللّه لعباده قد يتنوع بتنوع أحوالهم، كما قد يشتركون في أصل الإيمان باللّه وتوحيده، والإيمان بكتبه ورسله.
وإن أراد به أن الشريعة في نفسها تختلف، وأن النبي ﷺ خاطب زيدًا بخطاب يناقض ما خاطب به عَمْرًا، أو أظهر لهذا شيئًا يناقض ما أظهره لهذا ـ كما يرويه الكذابون : أن عائشة سألته هل رأيت ربك ؟ فقال :( لا ). وسأله أبو بكر فقال :( نعم ). وأنه أجاب عن مسألة واحدة بجوابين متناقضين لاختلاف حال السائلين ـ فهذا من كلام الكذابين المفترين، بل هو من كلام الملاحدة المنافقين؛ فإن النبي ﷺ قال :( ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين )، والحديث في سنن أبي داود وغيره. وكان عام الفتح قد أهدر دم جماعة منهم ابن أبي سَرْح، فجاء به عثمان ليبايع النبي ﷺ فأعرض عنه مرتين أو ثلاثًا ثم بايعه، ثم قال :( أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلى وقد أعرضت عن هذا فيقتله ؟ ) فقال بعضهم : هلا أومضت إلىَّ يارسول اللّه ؟ فقال :( ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) وهذا مبالغة في استواء ظاهره وباطنه وسره وعلانيته، وأنه لا يبطن خلاف ما يظهر على عادة المكارين المنافقين.