فكان هذا الكتاب لهذه الأمة هو الحجة البالغة، والمعجزة الباهرة، والنعمة التامة فهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾ ١. هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه فقد هدى إلى صراط مستقيم.
ففتح الله به آذانا صما، وأعينا عميا، وقلوبا غلفا، وأمر بالاعتصام به، والاهتداء بهديه، وتدبر آياته، والعمل بما فيه، وتكفل لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل فى الدنيا، ولا يشقى في الآخرة فقال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ ٢ وأتم النعمة بأن تكفل بحفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ٣.
ولقد علم المسلمون أن هذا الكتاب العزيز هو مكمن قوتهم، ومصدر عزتهم، وسبب نجاتهم، وانبرى العلماء الأكفاء منهم لتفسير كتاب الله، وبيان ما يشتمل عليه من أنواع العلوم والهدى.
وكان الأسوة في ذلك البيان هو رسول الله ﷺ حيث كان "خلقه القرآن" تحليلاً لما أحل، وتحريماً لما حرم، وهدياً ومنهجاً، فكان ذلك من قبيل بيانه للناس الذي أمره الله به بقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ٤.
ثم تأسى به أصحابه الكرام، أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وغرر الزمان الذين لم تكتحل عين الزمان بمثلهم أصحاباً. فأخذوا بالقرآن، واعتصموا به، وأقبلوا عليه تعلماً وتعليماً واهتداءً، فزكت نفوسهم، وتهذبت أخلاقهم، واستقامت أمورهم، ثم تلاهم في ذلك التابعون وتابعوهم بإحسان فنهجوا نهجهم وسلكوا سبيلهم وعكفوا على كتاب ربهم وسخروا العلوم لخدمته

١ سورة الجن: آية "١".
٢ سورة طه: آية "١٢٣".
٣ سورة الحجر: آية "٩".
٤ سورة النحل: آية "٤٤".

التمهيد

تناول كثير من الباحثين دراسة جوانب عديدة من حياة الشيخ الخاصة والعامة فدرسوا بيئته ونشأته ودعوته الإصلاحية دراسات مستفيضة جلت جوانب كثيرة منها١، ولم تحظ أي دعوة إصلاحية في العصر الحديث بمثل ما حظيت به هذه الدعوة من الدراسة والتحليل، ولا نكاد نجد دراسة لأحوال جزيرة العرب في القرن الثاني عشر الهجري إلا وتعرضت لذكر هذه الدعوة والقائم بها.
فلا حاجة بي إذاً إلى الإفاضة في ذكر تلك الجوانب التي استبانت إذ لست هنا بمقام المؤرخ، وإنما أحببت أن أعطي القارئ إلمامه بهذا العلم الهمام، ونشأته، وأصل دعوته، وما يتعلق بذلك لتتبين له المنزلة العلمية لمن أنا بصدد دراسة منهجه في التفسير. مع الإحالة إلى بعض المراجع الموسعة لمن أحب التوسع والاستزادة.
فأقول وبالله التوفيق:-
"١" من أشهر من كتب في ذلك وأكثرت من النقل عنهم:
١- العلامة المؤرخ أبو بكر حسين بن غنام. في "روضة الأفكار والأفهام".
٢- العلامة المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر. في "تاريخ نجد".
٣- الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية "٣: ٣٧٩ وما بعدها".
٤- الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم في "الدرر السنية" "١٣: ٣ وما بعدها".
٥- الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في "الشيخ محمد بن عبد الوهاب. عقيدته السلفية، ودعوته الإصلاحية، وثناء العلماء عليه".
٦- الدكتور صالح العبود في "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي".
٧- الدكتور عبد الله الصالح العثيمين في "الشيخ محمد بن عبد الوهاب. حياته وفكره".


الصفحة التالية
Icon