" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- إِنْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ "
لأفاد إمكان علمهم بذلك، وعدم إمكانه، ومن ثمَّ جاء التعبير بقوله تعالى:
" لَّوْ تَعْلَمُونَ "
فأفاد نفْيَ علمهم بعظمة هذا القسم، مع تمني حصوله. ويبيِّن لك ذلك أن الأصل في" لَوْ "أنها أداة تمن، ثم استعملت كأداة للشرط؛ وذلك من باب تعدُّد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد. ومن خواصِّها فرض ما ليس بواقع واقعًا، وتستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه، وفيما يمتنع حدوثه، أو فيما هو محال، أو من قبيل المحال.
وكذا القول في المقسَم به في بقية الآيات، التي جاء فعل القسم فيها مسبوقًا بـ"لَا " النافية. وهذا من الأسرار الدقيقة في البيان القرآني، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
وأما القول بأن "لَا "نافية للقسم فهو أبعد من القول بزيادتها؛ وذلك لما بين نفي الحاجة إلى القسم، وبين نفي القسم من فرق كبير. وفي بيان هذا الفرق قالت الدكتورة عائشة عبد الرحمن:"وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون " لَا "لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم، كما يهدي إليه البيان القرآني ".
وأضافت قائلة:"ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد، والتقرير؛ لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام.. والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه. وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فنقول لمن نثق فيه: لا تقسم. أو: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا ".
نخلص من ذلك كله إلى أن قولنا: أقسم بكذا، قسم مباشر. وأما قولنا: لا أقسم بكذا، فهو تلويح بالقسم وعدول عنه، لعدم الحاجة إليه، خلافًا للأول. وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحسِّ والنفس من القسم المباشر. وهذا ما أشار إليه سيد قطب- رحمه الله- ثم قال:"وهذا التلويح بالقسم، والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة، التي لا تحتاج إلى القسم؛ لأنها ثابتة واضحة ".
فإذا كان كذلك، فهو في قوة القسم من حيث إفادته معنى التوكيد والتأثير.
وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن"لَا "هذه نفيٌ لكلام تقدم ذكره فمدفوع بإجماع القرَّاء على أن " لَا "موصولة بالفعل " أُقْسِمُ ". وجعلها ردًّا لكلام سبق، يقتضي القراءة على وجوب الفصل بينها، وبين الفعل، فضلاً عما يبدو فيه من غرابة. ولو كان ما قالوه صوابًا، لوجب الفصل بينهما بواو القسم، كما وجب أن يكون جواب القسم منفيًّا، يدلك على ذلك قوله تعالى:
" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً "(النساء: ٦٥).
ونحو ذلك قول عائشة رضي الله عنها:" لا، والله ما مسَّت يدُ رسول الله ﷺ يدَ امرأة قطُّ ".
وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن "لَا "هذه أداة تنبيه، وأن أصلها:" أَلَا "فهو قول غريب عجيب، وأغرب منه، وأعجب قول من قال: إنها لام الابتداء أُشبِعت حركتها، فتولَّدت عنها ألفٌ. والأعجب من ذلك كله أن يتبنَّى هذا القول عالم جليل كأبي حيان الأندلسي، على أنه أولى الأقوال بالصواب، فقد قال في ذلك ما نصُّه:"والأولى عندي أنها لام أشبعت حركتها، فتولدت منها ألف؛ كقوله: أعوذ بالله من العقرَاب ".
ولا يخفى ما في ذلك كله من تكلُّف على ذوي البصائر بكلام الله تعالى، ومعرفة أسراره.. نسأله تعالى أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه، ويدركون أسرار بيانه، له الحمد وله المنَّة.
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
==============
من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة ألم نشرح
قال الله تبارك وتعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ " (الشرح: ١- ٨)
أولاً- نزلت هذه السورة الكريمة بعد سورة الضحى؛ وكأنها تكملة لها، فيها ظل العطف الندي، وفيها روح المناجاة للحبيب، وفيها استحضار مظاهر العناية، واستعراض مواقع الرعاية، وفيها البشرى باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سرِّ اليُسْر وحبل الاتصال الوثيق.
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول ﷺ لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها، ومن العقبات الوعرة في طريقها، ومن الكيد والمكر المضروب حولها.. توحي بأن صدره ﷺ كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة، وأنه كان يحس العبء فادحًا على كاهله، وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد، وزاد ورصيد.. ثم كانت هذه المناجاة الحلوة، وهذا الحديث الودود من المحِبِّ لحبيبه !
ثانيًا-قوله تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "(١)


الصفحة التالية
Icon