أي: رغبًا في رحمتنا، ورهبًا من عذابنا.
فإذا قيل: رغب فيه، وإليه، اقتضي الحرص عليه. قال تعالى:
" إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ "(التوبة: ٥٩)
وعلى هذا يحمل قوله تعالى هنا:"وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ "، تشبيهًا بسير السائر إلى من عنده حاجته؛ كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
" إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ "(الصافات: ٩٩)
وإذا قيل: رغب عنه، اقتضى صرْف الرّغبة عنه، والزهد فيه؛ نحو قوله تعالى:
" أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ "(مريم: ٤٦)، وقوله تعالى:
"وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ "(النساء: ١٢٧)
فالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:" وترغبون عن أن تنكحوهن".
وقدم قوله تعالى:" إِلَى رَبِّكَ " على قوله:" فَارْغَبْ "، لإفادة معنى الاختصاص. أي: لتكن رغبتك إلى ربك، لا إلى غيره ؛ فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق، فلا يليق بصاحبها أن يرغب إلى غير الرب جل وعلا، الذي وعده في سورة الضحى أن يعطيه، حتى يرضى:
"وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى "(الضحى: ٥)
وقد حقق له سبحانه هذا الوعد في هذه السورة، فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وأعطاه من خير الدنيا والآخرة ما لم يعطه لأحد من قبله، ولا بعده.
ولم تمنع الفاء في قوله تعالى:"فَارْغَبْ "، من تقديم المعمول:" إِلَى رَبِّكَ "، خلافًا للمشهور من أقوال النحاة؛ ولهذا نجدهم يتكلفون، فيقدرون عاملاّ محذوفًا لقوله:" فَارْغَبْ "، فيقولون: تقدير الكلام: وارغب إلى ربك، فارغب إليه. أو: وارغب إلى ربك، فارغبه.
والذي ألجأهم إلى هذا التكلف في التأويل والتقدير ما اصطلحوا عليه من أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، والذي عليه أهل التحقيق خلاف ذلك.. والله تعالى أعلم !
وهنا تنتهي السورة الكريمة، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين: شعور بعظمة الودِّ الحبيب الجليل، الذي ينسم على روح الرسول ﷺ من ربه الودود الرحيم. وشعور بالعطف على شخصه صلى الله عليه وسلم، ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة، التي اقتضت ذلك الود الجميل، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:" مَنْ قرأَ ألمْ نشرحْ، فكأنَّما جاءَنِي، وأنَا مُغْتمٌّ، ففرَّجَ عَنِّي ".
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلب
===============
مثل نوره جل جلاله
قال الله جل جلاله:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (النور: ٣٥)
أولاً- هذه الآية الكريمة تتحدث عن سلطان الله جل جلاله في هذا الوجود، وامتلاكه لناصية كل موجود فيه. ففيها يخبر سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه نور السموات والأرض، ثم يضرب لنوره مثلاً بنور مصباح، قد اجتمعت فيه أسباب الإضاءة كلها على أحسن وجه وأكمله، فبدا نوره صافيًا قويًّا متلألأً، ينير كل ما حوله. ثم أخبر سبحانه أنه يهدي لنوره من يشاء من عباده، وأن مشيئته سبحانه تابعة لحكمته وعلمه بالأشياء كلها دقيقها وعظيمها، صغيرها وكبيرها، لا يغيب من ذلك شيء عن علمه سبحانه.
وقد سبق ذلك قوله تعالى: " وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ "(النور: ٣٤)
وهو تعقيب لما سبقه في هذه السورة الكريمة، التي سمَّاها الله تعالى: سورة النور، ووصفها بقوله:" سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "(النور: ١)
فدل ذلك على أنها جملة من الحدود والأحكام والحكم والآداب، والأخلاق، والمواعظ، قد فرضت فرضًا على سبيل القطع والإلزام، لما في ذلك من تطهير للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، ومن حفظ للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإِباحية والفساد، التي تُسبب ضياع الأنساب، وذهاب الشرف والأعراض، وبناء مجتمع فاضل، يقوم على العدل والحق والخير.
والإخبار عن هذه السورة بلفظ النكرة هكذا:" سُورَةٌ "، ثم وصفها بما تلاه من صفات:" أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "، فيه من الفخامة من حيث الذات، ومن حيث الصفات ما لا يخفى، فكان من المناسب جدًّا أن يأتي الله سبحانه بعد ذلك بهذا التعقيب، الذي ضمَّنه هذا الوصف الجليل للقرآن الكريم، الذي تضمن هذا التقسيم الثلاثي لما جاء فيه، فبيَّن سبحانه وتعالى: