حتى إذا بلغ مغربَ الشمس وجدها تغرب في عينٍ حَمِئَةٍ
(رد على رسالة من أحد نصارى المهجر تدعونا إلى ترك الإسلام واعتناق التثليث)
بقلم: د. إبراهيم عوض
بعث لي أحد إخواننا من نصارى المهجر في الأسبوع الماضي برسالة مشباكية (مكتوبة بلغة إنجليزية لا بأس بها، وإن لم تخل من الأخطاء) يعقّب فيها على مقالي: "إعلان سيد القمنى الاعتزال: خواطر وتساؤلات"، الذي نُشِر بجريدة "الشعب" الضوئية يوم الجمعة الموافق ٢٠/ ٨/ ٢٠٠٥م، لكنه ترك تقريبا كل ما قلته في مقالي المشار إليه فلم يردّ على شيء منه، اللهم إلا ما كتبته عن المعجزات وأن غيابها عن النسق العقيدى عندنا لا يضر الإسلام في شيء، ورغم هذا جاء تناوله للموضوع على نحو لم أجد معه داعيا إلى الخوض فيه كَرّةً أخرى، وبخاصة أنه لم يحقِّق جيدا ما كتبته في هذه النقطة. ثم ثنَّى فتحدَّى المسلمين أن يستطيعوا الرد على ما يوجَّه للقرآن من انتقادات علمية منها ما يتعلق مثلا بما جاء في الآية ٨٦ من سورة "الكهف" عن ذي القرنين ومشاهدته الشمس وهى تغرب في عين ماء، مما يخالف حقائق علوم الفلك كما قال. وفى نهاية الرسالة لم ينس أن يرجو لنا أن نفيق من الغاشية التي تطمس على أبصارنا منذ أربعة عشر قرنا من الظلام وأن نعود إلى المسيح بعد أن بيَّن لنا هو وأمثاله مقدار الجهل الكبير الذي يتصف به الله ومحمد حسبما قال. يا شيخ، فأل الله ولا فألك! أتريدنا أن نرتد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ونعود إلى العصر الحجري في مسائل العقيدة والعبادة، ونترك التوحيد إلى التثليث، وندع الاحترام والتقدير العظيم الذي نكنّه في أعماق قلوبنا للسيد المسيح عليه السلام بوصفه رسولا وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين ونتخذه وثنا نشركه مع الله سبحانه وتعالى كما يفعل الكافرون؟ ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى:"وقالت اليهود: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابنُ الله! ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أَنَّى يُؤْفَكون؟" (التوبة/ ٣٠)؟ لا يا عم، يفتح الله! خّلِّك فيما أنت فيه، ولْنَبْقَ نحن أيضا في النور والهدى
الذي أكرمنا الله به على يد سيد النبيين والمرسلين، صلَّى الله وسلَّم عليه وعليهم أجمعين. وقد كتبتُ هذه الكلمة على الطائر وأنا على جناح سفر، ولم يرنِّق النوم في عيني طوال الليل إلا لساعة أو أقلّ دون سببٍ واضح، فلم يتسنّ لي تدقيق مراجعتها، ولعلي لم أخطئ فيها أخطاء فاحشة، وإلا فإني أعتذر مقدما من الآن.
والآية التي يشير إليها صاحب الرسالة هي قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ (أي ذو القرنين) مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا...". وأَدْخُل في الموضوع على الفور فأقول: من المعروف في كتب اللغة أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن هناك توسعا في استعمالها، بل إن في اللغة توسعات كثيرة في غير حروف الجر أيضا، وإن لم تكن هذه التوسعات دون ضوابط حتى لو لم نستطع في بعض الأحيان أن نتنبه لها، أو على الأقل حتى لو لم نتفق عليها. وقد تُسَمَّى هذه التوسعات بـ"المجاز"، وهو ما يعنى أن الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على ظاهره أو حرفيته. وهذا، كما سبق القول، معروف عند دارسي اللغات. ولْنأخذ حرف الجرّ "في" (الموجود في الآية) لنرى ماذا يقول النحاة في استعمالاته: فهم يقولون إنه يُسْتَخْدَم في عشرة معانٍ : الأول : الظرفية، زمانًا أو مكانًا، حقيقةً أو مجازًا، ومن الزمانية: "حضرتُ إلى الاجتماع في العاشرة مساء"، ومن المكانية: "سكنتُ في هذا البيت أعواما طوالا". الثاني : المصاحبة، نحو قوله تعالى: "ادخلوا في أُمَمٍ"، أي بمصاحبتها (الأعراف / ٣٨ ). الثالث : التعليل، نحو :"فذلكم الذي لمتُنَّنى فيه"، أي بسببه (يوسف / ٣٢). الرابع : الاستعلاء، نحو قوله تعالى: "ولأُصَلِّبَنَّكم في جذوع النخل"، أي عليها (طه/ ٧١ ). الخامس : مرادفة الباء، نحو: "فلان بصير في الموضوع الفلاني"، أي بصير به. السادس : مرادفة "إلى " نحو قوله تعالى: "فرَدّوا أيديهم في أفواههم"، أي مَدَّ الكفار
أيديهم إلى أفواه الرسل ليمنعوهم من الدعوة إلى الهدى والنور (إبراهيم / ٩). السابع : مرادفة " مِنْ ". الثامن : المقايسة، وهي الداخلة بين مفضولٍ سابقٍ وفاضلٍ لاحقٍ، كما في قوله سبحانه:"فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل"، أي أن متاع الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة قليل (التوبة / ٣٨). التاسع : التعويض، كما في قولنا: "دفعتُ في هذا الكتاب عشرين جنيها". العاشر : التوكيد، وأجازه بعضهم في قوله تعالى: "وقال: اركبوا فيها"، أي أن الركوب لا يكون إلا في السفينة، ولذلك لا ضرورة للنص على ذلك إلا من باب التوكيد (انظر في ذلك مثلا "مغنى اللبيب" لابن هشام).


الصفحة التالية
Icon