و لئن كان في موقفي الدعاءين هذين نداوة و لين، ففي بعض مواقف الدعاء القرآني الأخرى صخب رهيب، ها هو ذا نوح عليه السلام يدأب ليلاً و نهاراً على دعوة قومه إلى الحق، ويصر على نصحهم سراً و علانية، و هم يلجون في كفرهم و عنادهم، ويفرون من الهدى فراراً، و لا يزدادون إلا ضلالاً و استكباراً، فما على نوح ـ و قد أيس منهم ـ إلا أن يتملكه الغيظ و يمتلئ فمه بكلمات الدعاء الثائرة الغضبى تنطلق في الوجوه مديدة مجلجة، بموسيقاها الرهيبة، و إيقاعها العنيف، و ما تتخيل الجبال إلا دكا، و السماء إلا متجهمة عابسة و الأرض إلا مهتزة مزلزة، والبحار إلا هائجة ثائرة، حين دعا نوح على قومه بالهلاك و التيار فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجراً كفاراً، رب أغفر لي ولوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا، و للمؤمنين و المؤمنات، و لا تزد الظالمين إلا تبارا" سورة الأحزاب. أما الحناجر الكظيمة المكبوتة التي يتركها القرآن في بعض مشاهده تطلق أصواتها الحبيسة ـ بكل كربها و ضيقها و بحتها و حشرجتها ـ فهي حناجر الكافرين النادمين يوم الحساب العسير، فيتحسرون و يحاولون التنفيس عن كربهم ببعض الأصوات المتقطعة المتهدجة، كأنهم بها يتخففون من أثقال الدين يدعون ربهم دعاء التائبين النادمين و يقولون :" ربنا أنا أطعنا سادتنا و كبراءنا فأضلونا السبيلاً، ربنا آتهم ضعفين من العذاب و العنهم لعنا كبيراً." سورة الأحزاب ٦٧، ٦٨.
و إن هذه الموسيقى الداخلية لتنبعث في القرآن حتى من اللفظة المفردة في كل آية من آياته، فتكاد تستقل ـ بجرسها و نغمها ـ بتصوير لوحة كاملة فيها اللون زاهياً أو شاحباً، و فيها الظل شفيقاً أو كثيفاً. أرأيت لونا أزهي من نضرة الوجوه السعيدة الناظرة إلى الله، ولونا أشد تجهما من سواد الوجوه الشقية الكالحة الباسرة في قوله تعالى :" وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة " سورة القيامة. لقد استقلت في لوحة السعداء لفظة " ناضرة " بتصوير أزهى لون و أبهاه، كما استقلت في لوحة الأشقياء لفظة " باسرة " برسم أمقت لون و أنكاه.
المصدر :
إعجاز النظم في القرآن الكريم تأليف الأستاذ محمود شيخون.
دراسات حول الإعجاز البياني في القرآن الدكتور المحمدي عبد العزيز الحناوي
إعجاز القرآن البياني الدكتور عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ
==================
قصص من الاعجاز البياني في القرآن الكريم
هذه الحادثة جرت للأصمعي الذي يعتبر من أعظم علماء اللغة العربية
كان الأصمعي موجودا في مجلس يتحدث عن موضوع معين فأحب الاستشهاد بآية من القرآن الكريم فقال ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بماكسبا نكالا من الله والله غفور رحيم
فسأله اعرابي : يا أصمعي كلام من هذا
فرد الأصمعي : كلام الله
فقال الاعرابي بثقة هذا ليس كلام الله
انتشر اللغط في المجلس وثار الناس على الاعرابي الذي ينكر آية واضحة في القرآن لكن الأصمعي محتفظا بهدوءه سأله
يا اعرابي هل أنت من حفظة القرآن
قال الاعرابي : لا
حسنا هل تحفظ سورة المائدة ( وهي السورة التي تنتمي إليها هذه الآية)
كرر الاعرابي نفيه : لا
اذا" كيف حكمت بأن هذه الآية ليست من كلام الله
كرر الاعرابي بثقة هذه ليست كلام الله
حسما للجدال ومع ارتفاع اللغط تم احضار المصحف لحسم الموقف
فتح الأصمعي المصحف على سورة المائدة وهو يقول بنبرة الفوز
هذه هي الآية
اسمع ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالامن الله )لحظة لقد أخطأت في نهاية الآية ( والله عزيز حكيم ) وليس (غفور رحيم)
أعجب الأصمعي بنباهة الاعرابي الذي فطن إلى الخطأ بدون أن يكون من حفظة القرآن فسأله
يا اعرابي كيف عرفت ؟
قال الاعرابي : يا أصمعي عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع
لقد لاحظ الاعرابي بفطرته أن الآية تتحدث عن حكم شديد من أحكام الاسلام وهو قطع اليد للسارق درءا للمفاسد وتخويفا لغيره فليس من المعقول أن تنتهي الآية بكلمة غفور رحيم لأن هذا المكان ليس محل مغفرة بل تطبيق للحد
============
الإعجاز البياني واللغوي في القرآن الكريم
أ. د. عمر يوسف حمزة*
مقدمة
الاعحاز الحمد لله رب العالمين، الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين الذي أنزل الله تعالى القرآن على قلبه بلسان عربي مبين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.وبعد، فإنَّ قضية الإعجاز القرآني قد استحوذت ـ منذ وقت
مبكر ـ على قدر كبير من اهتمام العلماء وعنايتهم، وكانت هي الدافع القوي وراء ما بذلوه من جهود مباركة، يرمون من ورائها إلى تحقيق هدف ديني أصيل، جدير بأنْ يبذل في سبيله كل جهد، وتستنفد كل طاقة.
ذلك أنَّ التسليم بأنَّ القرآن الكريم معجز للبشر، يؤدي بدوره إلى التسليم بأنه من عند الله تعالى، وهذا بدوره يؤدي إلى التسليم بأنَّ كل ما تضمنه حق خالص، لا سبيل للباطل إليه، وأنه الصراط المستقيم، وحبل الله المتين، وأنَّ العصمة والنجاة في الاحتماء بحصنه.