وقد اعترض هذا التأويل، وقيل: ما في القرآن بعضه خير من بعض، أليس هو محكام واحد جل قائله.
والجواب: أن معنى (خير منها) أي أنفع منها، لأن الناسخ لا يخلو من أحد النعمتين: إما أن يكون أثقل في الحكم، فيكون أوفر في الأجر.
وإما أن يكون أخف في الحكم، فيكون أيسر في العمل.
وقد قرىء (نَنسأها) أي نؤخر حكمها، فيعمل به حينا.
ثم قال تعالى: (أَلَم تَعلَم أَنَّ اللَهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ) من أمر الناسخ والمنسوخ.
ومثل هذا قوله تعالى: (وَإِذا بَدَّلنا آيةً مَكانَ آيةٍ وَاللَهُ أَعلَمُ بِما يُنَزِّلُ) والمعنى: حكم آية (قالوا إَنَّما أَنتَ مُقتَر) أي اختلقته من تلقاء نفسك. فقال سبحانه وتعالى ردا عليهم (بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمونَ) النحل.
ولأن في إثبات الناسخ والمنسوخ في القرآن دلالة وحدانية الله تعالى ذكره بقوله: (أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ).
وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه صعد على المروة فقرأ (أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمر) وقال: يا غالب، من ادعى ثالثة فليقم، الخلق جميع ما خلق، والأمر جميع ما قضي، وليس في كتاب الله تعالى كلمتان تجمع الملك غيرهما.

باب


في ذكر ما جاء من الناسخ في الشريعة على التوالي.
اعلم أنه ليس في أم الكتاب شيء، لأن أولها ثناء، وآخرها دعاء.
سورة البقرة
مدنية، تحتوي على ثلاثين آية منسوخة.
الأولى: قوله عز وجل (وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقون).
اختلف أهل العلم في ذلك: فقال طائفة - وهم الأكثرون - هي الزكاة المفروضة.
وقال مقاتل وحيان وجماعة: كل ما فضل عن الزكاة نسخته الآية المفروضة.
وقال أبو جعفر بن زيد بن القعقاع: نسخت الزكاة المفروضة كل صدقة في القرآن، ونسخ شهر رمضان كل صيام في القرآن، ونسخ ذباحة الأضحى كل ذبح.
الآية الثانية: قوله عز وجل (إَنَّ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ هادوا).
والناس فيها قائلان: فقالت - طائفة - منهم مجاهد والضحاك وابن مزاحم - وهي محكمة. ويقرؤونها بالمحذوف المقدر، فيكون التقدير على قولهما: إن الذين آمنوا ومن آمن من الذين هادوا والنصارى والصابئين.
وقال الأكثرون: هي منسوخة، وناسخها عندهم: (وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ ديناً) الآية.
الآية الثالثة: قوله تعالى: (وَقَولوا لِلَّناسِ حُسناً) فيها قولان: قال عطاء بن أبي رباح، وأبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم أجمعين: هي محكمة. واختلفا بعد ما اجتمعا على إحكامها.
وقال محمد بن الحسن بن علي عليهم السلام: معنى قوله (وَقولوا لِلَّناسٍ حُسناً) أي قولوا لهم: إن محمداً رسول الله.
وقال عطاء بن أبي رباح: وقولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: إن مجلسك هذا يحضره البر والفاجر، أفتجيزني أن أغلظ فيه على الفاجر؟ فقال: لا، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: (وَقولوا لِلَّناسِ حُسناً).
وقال جماعة: هي منسوخة. وناسخها عندهم قوله تعالى: (اِقتُلوا المُشرِكينَ حَيثُ وَجَدتُموهُم) الآية.
الآية الرابعة: قوله عز وجل: (فَاِعفوا وَاِصفَحوا).
نسخ ما فيها من العفو والصفح قوله: (قاتِلوا الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِاللَهِ وَلا بِاليَومِ الآخِر) إلى قوله: (حَتّى يُعطوا الجِزيَةَ عَن يَدٍ وَهُم صاغِرونَ).
وباقي الآية محكمة.
الآية الخامسة: قوله عز وجل: (وَلِلَّهِ المَشرِقُ وَالمَغرِبُ) هذا محكم.
والمنسوخ منها قوله تعالى: (فَأَينَما تُوَلّوا فَثَمَّ وَجهُ اللَه).
وذلك: أن طائفة أرسلهم النبي ﷺ في سفر، فعميت عليهم القبلة، فصلوا إلى غير جهتها، فلما تبينوا ذلك ورجعوا إلى رسول الله ﷺ فأخبروه بذلك، فنزلت هذه الآية (وَلِلَّهِ المَشرِقُ وَالمَغرِبُ).
وقال قتادة والضحاك وجماعة: لما قدم رسول الله ﷺ نحو بيت المقدس مقدار سبعة عشر شهرا.
وهو قول الأكثرين من أهل التواريخ، منهم معقل بن يسار، والبراء بن عازب.
وقال قتادة: ثمانية عشر شهرا.
وفيها رواية أخرى عن إبراهيم الحراني: ثلاثة عشر شهرا إلى بيت المقدس.


الصفحة التالية
Icon