الباب الثالث: المرحلة الثالثة للتفسير.. أو التفسير فى عصور التدوين
تمهيد
* ابتداء هذه المرحلة:
تبدأ المرحلة الثالثة للتفسير من مبدأ ظهور التدوين، وذلك فى أواخر عهد بنى أمية، وأول عهد للعباسين.
* الخطوة الأولى للتفسير:
وكان التفسير قبل ذلك يُتناقل بطريق الرواية، فالصحابة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يروى بعضهم عن بعض. والتابعون يروون عن الصحابة. كما يروى بعضهم عن بعض، وهذه هى الخطوة الأولى للتفسير.
* *
* الخطوة الثانية:
ثم بعد عصر الصحابة والتابعين، خطا التفسير خطوة ثانية، وذلك حيث ابتدأ التدوين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير باباً من هذه الأبواب التى اشتمل عليها الحديث، فلم يُفرد له تأليف خاص يُفسِّر القرآن سورة سورة، وآية آية، من مبدئه إلى منتهاه، بل وُجد من العلماء مَن طوَّف فى الأمصار المختلفة ليجمع الحديث، فجمع بجوار ذلك ما رُوِى فى الأمصار من تفسير منسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين، ومن هؤلاء: يزيد بن هارون السلمى المتوفى سنة ١١٧ هـ، وشعبه بن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠ هـ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة ١٩٧هـ وسفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨هـ، وروح عن عبادة البصرى المتوفى سنة ٢٠٥هـ، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة ٢١١هـ، وآدم بن أبى إياس والمتوفى سنة ٢٢٠هـ، وعبد حميد المتوفى سنة ٢٤٩هـ وغيرهم، وهؤلاء جميعاً كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعاً لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعاً للتفسير على استقلال وانفراد. وجميع ما نقله هؤلاء الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مسنداً إليهم، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شئ منها، ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها.
* *
* الخطوة الثالثة:
ثم بعد هذه الخطوة الثانية، خطا التفسير ثالثة، انفصل بها عن الحديث، فأصبح علماً قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورُتَّب ذلك على حسب ترتب المصحف. وتم ذلك على أيدى طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة ٢٧٣هـ، وابن جرير الطبرى المتوفى سنة ٣١٠هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابورى المتوفى سنة ٣١٨هـ، وابن أبى حاتم المتوفى سنة ٣٢٧هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة ٣٦٩هـ، والحاكم المتوفى سنة ٤٠٥هـ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة ٤١٠هـ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين، وليس فيها شئ من التفسير أكثر من التفسير المأثور، اللَّهم إلا ابن جرير الطبرى فإنه ذكر الأقوال ثم وجهَّها، ورجَّح بعضها على بعض، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستبط الأحكام التى يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية... وسنأتى بالكلام عن هذا التفسير عند الكلام عن الكتب المؤلِّفة فى التفسير بالمأثور إن شاء الله تعالى.
وإذا كان التفسير قد خطا هذه الخطوة الثالثة التى انفصل بها عن الحديث، فليس معنى أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرح فى خطواته، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقى والرواية، كانت الخطوة الثانية له، وهى تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهى تدوينه على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها إلى بعض، بل وظل المحدِّثون بعد هذه الخطوة الثالثة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية المنقول من التفسير فى باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين فى ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو عن التابعين.
* *
* ليس من السهل معرفة أول من دَوَّن تفسير كل القرآن مرتَّباً:
هذا.. ولا نستطيع أن نُعيِّن بالضبط، المفسِّر الأول الذى فسرَّ القرآن آية آية، ودوَّنه على التتابع وحسب ترتيب المصحف. ونجد فى الفهرست لابن النديم (ص ٩٩) أن أبا العباس ثعلب قال: "كان السبب فى إملاء كتاب الفرَّاء فى المعانى أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعاً إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل، ربما سألنى عن الشئ بعد الشئ من القرآن فلا يحضرنى فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لى أصولاً، أو تجعل فى ذلك كتاباً أرجع إليه فعلت، فقال الفرَّاء لأصحابه: اجتمعوا حتى أُملى عليكم كتاباً فى القرآن، وجعل لهم يوماً، فلما حضروا خرج إليهم، وكان فى المسجد رجل يُؤذِّن ويقرأ بالناس فى الصلاة، فالتفت إليه الفرَّاء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسِّرها، ثم نوفى الكتاب كله، فقرأ الرجل ويفسِّر الفراء، قال أبو العباس: لم يعمل أحد قبل مثله، ولا أحسب أن أحداص يزيد عليه".