وأما قول عيسى ـ عليه السلام ـ ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنهم عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: ١١٨] ولم يقل: أنت الغفور الرحيم، لأن المقام ليس مقام استعطاف واسترحام، إنما هو مقام غضب وانتقام ممن اتخذه وأمه إلهين من دون الله، فناسب ذكر العزة والحكمة، وصار أولى من ذكر الرحمة والمغفرة.
ومن ألطف مقامات الرجاء: أن يذكر أسباب الرحمة وأسباب العقوبة، ثم يختمها بما يدل على الرحمة؛ مثل قوله: ﴿ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: ١٢٩] وقوله: ﴿ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ [الأحزاب: ٧٣] فذلك يدل على أن رحمته سبقت غضبه وغلبته وصار لها الظهور، وإليها ينتهي كل من فيه أدنى سبب من أسباب الرحمة، ولهذا يخرج من النار من كان في قلبه أدنى حبة خردل من الإيمان ولنقتصر على هذه الأمثلة فإنه يعرف بها صفة الاستدلال بذلك.
القاعدة العشرون: القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث
وقد وصفه الله تعالى بكل واحدة من هذه الأوصاف الثلاث.
فوصفه بأنه محكم في عدة آيات، وأنه: ﴿ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾[ هود: ١] ومعنى ذلك أنه في غاية الإحكام ونهاية الانتظام، فأخباره كلها حق وصدق، لا تناقض فيها ولااختلاف، وأوامره كلها خير وبركة وصلاح، ونواهيه متعلقة بالشرور والأضرار والأخلاق الرذيلة والأعمال السيئة فهذا إحكامه.