قيل له: خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر، أتعرف له معنى غير أن لا يزال البرهان منه لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكناً لمن التمسه، فإذا كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي له كان معجزاً قائم فيه أبداً، وأن الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن، فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجة الله تعالى، وآثرت في الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها. وكان التقليد فيها أحب إليك، والتعويل على علم غيرك آثر لديك، ونح الهوى عنك، وراجع عقلك، واصدق نفسك، يبن لك فحش الغلط فيما رأيت وقبح الخطأ في الذي توهمت. وهل رأيت رأياً أعجز، واختياراً أقبح، ممن كره أن تعرف حجة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر، وأقوى وأقهر، وآثر أن لا يقوى سلطانها على الشرك كل القوة، ولا تعلو على الكفر كل العلو. والله المستعان.
الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه
وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه
لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور: أحدها: أن يكون رفضه له وذمه إياه من أجل ما يجده فيه من هزل وسخف وهجاء وسخف وكذب وباطل على الجملة.
والثاني: أن يذمه، لأنه موزون مقفى، ويرى هذا بمجرده عيباً يقتضي الزهد فيه والتنزه عنه.
والثالث: أن يتعلق بأحوال الشعراء، وأنها غير جميلة في الأكثر، ويقول: قد ذموا في التنزيل. وأي كان من هذه رأياً له فهو في ذلك على خطأ ظاهر، وغلط فاحش، وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنظر، وبالضد مما جاء به الأثر، وصح به الخبر.
أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسخف وكذب وباطل، فينبغي أن يذم الكلام كله، وأن يفضل الخرس على النطق، والعي على البيان.
فمنثور كلام الناس على كل حال أكثر من منظومه. والذي زعم أنه ذم الشعر من أجله، وعاداه بسببه فيه أكثر. لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون، والعامة ومن لا يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل. ونحن نعلم أن لو كان منثور الكلام يجمع كما يجمع المنظوم، ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثراً في عصر واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظماً في الأزمان الكثيرة، ولغمره حتى لا يظهر فيه.
ثم إنك لو لم ترو من هذا الضرب شيئاً قط، ولم تحفظ إلا الجد المحض، ما لا معاب عليك في روايته، وفي المحاضرة به، وفي نسخه وتدوينه لكان في ذلك غنى ومندوحة، ولوجدت طلبتك ونلت مرادك، وحصل لك ما نحن ندعوك إليه من الفصاحة. فاختر لنفسك، ودع ما تكره إلى ما تحب.
هذا، وراوي الشعر حاك، وليس على الحاكي عيب، ولا عليه تبعة، إذا هو يقصد بحكايته أن ينصر باطلاً، أو يسوء مسلماً، وقد حكى الله تعالى كلام الكفار. فانظر إلى الغرض الذي له روي الشعر، ومن أجله أريد، وله دون، تعلم أنك قد زغت عن المنهج، وأنك مسيء في هذه العداوة وهذه العصبية منك على الشعر. وقد استشهد العلماء لغريب القرآن وإعرابه بالأبيات فيها الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك إذا كانوا لم يقصدوا إلى ذلك الفحش، ولم يريدوه، ولم يرووا الشعر من أجله.
قالوا: وكان الحسن البصري، رحمه الله، يتمثل في مواعظه بالأبيات من الشعر وكان من أوجعها عنده، من الكامل:
اليوم عندك دلها وحديثها
وغداً لغيرك كفها والمعصم
وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكره المرزباني، في كتابه بإسناد عن عبد الملك بن عمير أنه قال: أتي عمر رضوان الله عليه بحلل من اليمن فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن طلحة بن عبيد الله ومحمد بن حاطب فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء المحمدون بالباب يطلبون الكسوة. فقال: ائذن لهم يا غلام. فدعا بحلل، فأخذ زيد أجودها، وقال: هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمه عنده، وهو من بني لؤي فقال عمر رضي الله عنه: أيهات أيهات. وتمثل بشعر عمارة بن الوليد، من الطويل: