قولي: نعم، ونعم إن قلت واجبة... قالت: عسى، وعسى جسر إلى نعم
فترى لها لطفاً وخلابة وحسناً ليس الفضل فيه بقليل.
ومما هو أصل في شرف الاستعارة أن ترى الشاعر قد جمع بين عدة استعارات، قصداً إلى أن يلحق الشكل بالشكل، وأن يتم المعنى والشبه فيما يريد. مثاله قول امرئ القيس، من الطويل:

فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل
لما جعل لليل صلباً قد تمطى به ثنى ذلك، فجعل له أعجازاً قد أردف بها الصلب، وثلث فجعل له كلكلاً قد ناء به. فاستوفى له جملة أركان الشخص، وراعى ما يراه الناظر من سواده إذا نظر قدامه، وإذا نظر إلى ما خلفه، وإذا رفع البصر ومدده في عرض، الجو.
القول في النظم وفي تفسيره
واعلم أن هاهنا أسراراً ودقائق لا يمكن بيانها إلا بعد أن نعد جملة من القول في النظم وفي تفسيره والمراد منه وأي شيء هو، وما محصوله ومحصول الفضيلة فيه. فينبغي أن نأخذ في ذكره، وبيان أمره، وبيان المزية التي تدعى له من أين تأتيه؟ وكيف تعرض فيه؟ وما أسباب ذلك وعلله؟ وما الموجب له؟ وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم، وتفخيم قدره، والتنويه بذكره، وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ. وبتهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلا به، وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال. وما كان بهذا المحل من الشرف، وفي هذه المنزلة من الفضل، وموضوعاً هذا الموضع من المزيه، وبالغاً هذا المبلغ من الفضيلة، كان حرى بأن توقظ له الهمم، وتوكل به النفوس، وتحرك له الأفكار، وتستخدم فيه الخواطر. وكان العاقل جديراً أن لا يرضى من نفسه بأن يجد فيه سبيلاً إلى مزية علم، وفضل استبانة، وتلخيص حجة، وتحريردليل. ثم يعرض عن ذلك صفحاً، ويطوي دونه كشحاً، وأن يربأ بنفسه، وتدخل عليه الأنفة من أن يكون في سبيل المقلد الذي لا يبت حكماً، ولا يقتل الشيء علماً، ولا يجد ما يبرىء من الشبهة، ويشفي غليل الشاك. وهو يستطيع أن يرتفع عن هذه المنزلة، ويباين من هو بهذه الصفة، فإن ذلك دليل ضعف الرأي، وقصر الهمة ممن يختاره ويعمل عليه.
واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها. وذلك أنا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه.
فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، و زيد ينطلق وينطلق زيد، ومنطلق زيد وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق وزيد هو منطلق.
وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك: إن تخرج أخرج، وإن خرجت خرجت، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج. وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعاً، وجاءني يسرع وجاءني وهو مسرع، أو هو يسرع، وجاءني قد أسرع، وجاءني وقد أسرع. فيعرف لكل من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له.
وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلاً من ذلك في خاص معناه، نحو أن يجيء ب ما في نفي الحال وب لا إذا أراد نفي الاستقبال، وب إن فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون، وب إذ فيما علم أنه كائن.
وينظر في الجمل التي تسرد؟ فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل، ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع ثم وموضع أو، وموضع لكن من موضع بل. ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له.


الصفحة التالية
Icon