وقولهم: شر أهر ذا ناب إنما قدم فيه شر لأن المراد أن يعلم أن الذي أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير، فجرى مجرى أن تقول: رجل جاءني، تريد أنه رجل لا امرأة. وقول العلماء إنه إنما يصلح، لأنه بمعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر بيان لذلك. ألا ترى أنك لا تقول: ما أتاني إلا رجل، إلا حيث يتوهم السامع أنه قد أتتك إمرأة. ذاك لأن الخبر بنقض النفي يكون حيث يراد أن يقصر الفعل على شيء، وينفى عما عداه. فإذا قلت: ما جاءني إلا زيد، كان المعنى أنك قد قصرت المجيء على زيد، ونفيته، كل من عداه وإنما يتصور قصر الفعل على معلوم. ومتى لم يرد بالنكرة الجنس لم يقف منها السامع على معلوم حتى يزعم أني أقصر له الفعل عليه، وأخبره أنه كان منه دون غيره.
وأعلم أنا لم نرد بما قلناه من أنه إنما حسن الابتداء بالنكرة في قولهم شر أهر ذا ناب لأنه أريد به الجنس أن معنى شر والشر سواء، وإنما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبين أن الذي أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير. كما أنا إذا قلنا في قولهم: أرجل أتاك أم امرأة؟ أن السؤال عن الجنس لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال: الرجل أم المرأة أتاك؟ ولكنا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي: أهو من جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرة إذاً على أصلها من كونها لواحد من الجنس. إلا أن القصد منك لم يقع إلى كونه واحداً، وإنما وقع إلى كونه من جنس الرجال. وعكس هذا أنك إذا قلت: أرجل أتاك أم رجلان؟ كان القصد منك إلى كونه واحداً دون كونه رجلاً فاعرف ذلك أصلاً. وهو أنه قد يكون في اللفظ دليل على أمرين، ثم يقع القصد إلى أحدهما دون الآخر، فيصير الآخر بأن يدخل في القصد، كأنه لم يدخل في دلالة اللفظ. وإذا اعتبرت ما قدمته من قول صاحب الكتاب: أنك قلت: عبد الله، فنبهته له، ثم بنيت عليه الفعل وجدته يطابق هذا. وذاك أن التنبيه لا يكون إلا على معلوم، كما أن قصر الفعل لا يكون إلا على معلوم. فإذا بدأت بالنكرة فقلت: رجل، وأنت لا تقصد بها الجنس، وأن تعلم السامع أن الذي أردت بالحديث رجل لا امرأة كان محالاً أن تقول: إني قدمته لأنبه المخاطب له، لأنه يخرج بك، إلى أن تقول: إني أردت أن أنبه السامع لشيء لا يعلمه في جملة ولا تفصيل. وذلك ما لا يشك في استحالته، فاعرفه.
الحذف
هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن. وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر. وأنا أكتب لك بديئاً أمثلة مما عرض فيه الحذف، ثم أنبهك على صحة ما أشرت إليه، وأقيم الحجة من ذلك عليه، صاحب الكتاب، من البسيط:
اعتاد قلبك من ليلى عوائده... وهاج أهواءك المكنونة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به... وكل حيران جار ماؤه خضل
قال: أراد ذاك ربع قواء أو هو ربع. قال: ومثله قول الآخر، من البسيط:
هل تعرف اليوم رسم الداروالطللا... كما عرفت بجفن الصيقل الخللا
دار لمروة إذ أهلي وأهلهم... بالكانسية نرعى اللهو والغزلا
كأنه قال: تلك دار. قال شيخنا رحمه الله: ولم يحمل البيت الأول على أن الربع بدل من الطلل، لأن الربع أكثر من الطلل، والشيء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه. فأما الشيء من أقل منه ففاسد لا يتصور. وهذه طريقة مستمرة لهم إذ ذكروا الديار والمنازل، كما يضمرون في المبتدأ فيرفعون، فقد يضمرون الفعل فينصبون كبيت الكتاب أيضاً، من البسيط:
ديار مية إذ مي تساعفنا... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
أنشده بنصب ديار على إضمار فعل، كأنه قال: أذكر ديار مية.
ومن المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ القطع والاستئناف، يبدؤون بذكر الرجل، ويقدمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأول، ويستأنفون كلاماً آخر. وإذا فعلوا ذلك أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ، مثال ذلك قوله، من مجزوء الكامل:
وعلمت أني يوم ذا... ك منازل كعباً ونهدا
قوم إذا لبسوا الحدي... د تنمروا حلقاً وقدا
وقوله، من الوافر: