وذلك أوضح من أن يخفى. وأصل آخر وهو أن من حقنا أن نعلم أن مذهب الجنسية في الاسم، وهو خبر غير مذهبها، وهو مبتدأ. تفسير هذا أنا وإن قلنا: إن اللام في قولك: أنت الشجاع، للجنس كما هو له في قولهم: الشجاع موقى، والجبان ملقى، فإن الفرق بينهما عظيم. وذلك أن المعنى في قولك: الشجاع موقى، أنك تثبث الوقاية لكل ذات صفتها الشجاعة، فهو في معنى قولك: الشجعان كلهم موقون. ولست أقول: إن الشجاع كالشجعان على الإطلاق، وإن كان ذلك ظن كثير من الناس، ولكني أريد أنك تجعل الوقاية تستغرق الجنس، وتشمله وتشيع فيه. وأما في قولك: أنت الشجاع، فلا معنى فيه للاستغراق إذ لست تريد أن تقول: أنت الشجعان كلهم، حتى كأنك تذهب به مذهب قولهم: أنت الخلق كلهم، وأنت العالم. كما قال، من السريع:

ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
ولكن لحديث الجنسية هاهنا مأخذاً آخر غير ذلك، وهو أنك تعمد بها إلى المصدر المشتق منه الصفة، وتوجهها إليه لا إلى نفس الصفة. ثم لك في توجيهها إليه مسلك دقيق، وذلك أنه ليس القصد أن تأتي إلى شجاعات كثيرة، فتجمعها له، وتوجدها فيه، ولا أن تقول: إن الشجاعات التي يتوهم وجودها في الموصوفين بالشجاعة هي موجودة فيه لا فيهم. هذا كله محال بل المعنى على أنك تقول: كنا قد عقلنا الشجاعة، وعرفنا حقيقتها، وما هي وكيف ينبغي أن يكون الإنسان في إقدامه وبطشه حتى يعلم أنه شجاع على الكمال، واستقرينا الناس، فلم نجد في واحد منهم حقيقة ما عرفناه. حتى إذا صرنا إلى المخاطب وجدناه قد استكمل هذه الصفة، واستجمع شرائطها، وأخلص جوهرها ورسخ فيه سنخها. ويبين لك أن الأمر كذلك اتفاق الجميع على تفسيرهم له بمعنى الكامل، ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات التي يتوهم كونها في الموصوفين بالشجاعة، لما قالوا: إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأن الكمال هو أن تكون الصفة على ما ينبغي أن تكون عليه، وأن لا يخالطها ما يقدح فيها. وليس الكمال أن تجتمع آحاد الجنس، وينضم بعضها إلى بعض، فالغرض إذاً بقولنا: أنت الشجاع، هو الغرض بقولهم: هذه هي الشجاعة على الحقيقة، وما عداها جبن. وهكذا يكون العلم وما عداه تخيل. وهذا هو الشعر وما سواه فليس بشيء، وذلك أظهر من أن يخفى.
وضرب آخر من الاستدلال في إبطال أن يكون: أنت الشجاع: بمعنى أنك كأنك جميع الشجعان على حد: أنت الخلق كلهم. وهو أنك في قولك: أنت الخلق وأنت الناس كلهم، وقد جمع العالم منك في واحد تدعي له جميع المعاني الشريفة المتفرقة في الناس من غير أن تبطل تلك المعاني، وتنفيها عن الناس، بل على أن تدعي له أمثالها. ألا ترى أنك إذا قلت في الرجل: إنه معدود بألف رجل، فلست تعني أنه معدود بألف رجل لا معنى فيهم، ولا فضيلة لهم بوجه. بل تريد أنه يعطيك من معاني الشجاعة، أو العلم، أو كذا أو كذا مجموعاً ما لا تجد مقداره مفرقاً إلا في ألف رجل. وأما في نحو: أنت الشجاع، فإنك تدعي له أنه قد انفرد بحقيقة الشجاعة، وأنه قد أوتي فيها مزية، وخاصية لم يؤتها أحد حتى صار الذي كان يعده الناس شجاعة غير شجاعة، وحتى كأن كل إقدام إحجام، وكل قوة عرفت في الحرب ضعف، وعلى ذلك قالوا: جاد حتى بخل كل جواد، وحتى منع أن يستحق اسم الجواد أحد: كما قال، من الوافر:
وإنك لا تجود على جواد هباتك ان يلقب بالجواد
وكما يقال: جاد حتى كأن لم يعرف لأحد جود، وحتى كان قد كذب الواصفون الغيث بالجود. كما قال، من البسيط:
أعطيت حتى تركت الريح حاسرة وجدت حتى كأن الغيث لم يجد
في الذي خصوصاً
اعلم أن لك في الذي علماً كثيراً، وأسراراً جمة، وخفايا إذا بحثت عنها وتصورتها طلعت على فوائد تؤنس النفس، وتثلج الصدر، بما يفضي بك إليه من اليقين، ويؤديه إليك من حسن التبيين. والوجه في ذلك أن تتأمل عبارات لهم فيه: لم وضع، ولأي غرض اجتلب، وأشياء وصفوه بها.


الصفحة التالية
Icon