وينبغي أن يجعل ما يصنع في الشرط والجزاء من هذا المعنى أصلاً يعتبر به. وذلك أنك ترى متى شئت جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى، ثم جعلنا بمجموعهما شرطاً، ومثال ذلك قوله تعالى: " ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً " الشرط كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد، ولا في واحدة دون الأخرى، لأنا إن قلنا إنه في كل واحدة منهما على الانفراد جعلناهما شرطين، وإذا جعلناهما شرطين اقتضتا جزاءين وليس معنا إلا جزاء واحد. وإن قلنا إنه في واحدة منهما دون الأخرى لزم منه إشراك ما ليس بشرط في الجزم بالشرط، وذلك ما لا يخفى فساده. ثم إنا نعلم من طريق المعنى أن الجزاء الذي هو احتمال البهتان والإثم المبين أمر يتعلق إيجابه لمجموع ما حصل من الجملتين. فليس هو لاكتساب الخطيئة على الانفراد، ولا لرمي البريء بالخطيئة أو الإثم على الإطلاق، بل لرمي الإنسان البريء بخطيئة أو إثم كان من الرامي. وكذلك الحكم أبداً، فقوله تعالى: " ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " لم يعلق الحكم فيه بالهجرة على الانفراد، بل بها مقروناً إليها أن يدركه الموت عليها.
واعلم أن سبيل الجملتين في هذا وجعلهما بمجموعهما بمنزلة الجملة الواحدة سبيل الجزءين تعقد منهما الجملة، ثم يجعل المجموع خبراً أو صفة أو حالاً كقول: زيد قام غلامه، وزيد أبوه كريم، ومررت برجل أبوه كريم، وجاءني زيد يعدو به فرسه. فكما يكون الخبر والصفة والحال لا محالة في مجموع الجزءين لا في أحدهما كذلك يكون الشرط في مجموع الجملتين لا في إحداهما. وإذا علمت ذلك في الشرط فاحتذه في العطف، فإنك تجده مثله سواء.
ومما لا يكون العطف فيه إلا على هذا الحد قوله تعالى: " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر، كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ". لو جريت على الظاهر فجعلت كل جملة معطوفة على ما يليها منع منه المعنى، وذلك أنه يلزم منه أن يكون قوله " وما كنت ثاوياً في أهل مدين " معطوفا على قوله " فتطاول عليهم العمر "، وذلك يقتضي دخوله في معنى لكن، ويصير كأنه قيل: ولكنك ما كنت ثاوياً، وذلك ما لا يخفى فساده وإذا كان ذلك بان منه أنه ينبغي أن يكون عطف مجموع " وما كنت ثاوياً في أهل مدين " إلى " مرسلين " على مجموع قوله " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر إلى قوله " العمر ".
فإن قلت: فهلا قدرت أن يكون " وما كنت ثاوياً في أهل مدين " معطوفاً على " وما كنت من الشاهدين " دون أن تزعم أنه معطوف عليه، مضموماً إليه ما بعده إلى قوله العمر؟ قيل لأنا إن قدرنا ذلك وجب أن ينوى به التقديم على قوله: " ولكنا أنشأنا قروناً "، و يكون الترتيب: " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، وما كنت من الشاهدين وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا، ولكنا أنشأنا قروناً، فتطاول عليهم العمر ولكنا كنا مرسلين، وفي ذلك إزالة لكن عن موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه. ذاك لأن سبيل لكن سبيل إلا فكما لا يجوز أن تقول: جاءني القوم وخرج أصحابك إلا زيداً و عمراً بجعل إلا زيداً استثناء من جاءني القوم، و إلا عمراً من خرج أصحابك. كذلك لا يجوز أن تصنع مثل ذلك بلكن فتقول: ما جاءني زيد وما خرج عمرو، ولكن بكراً حاضر ولكن أخاك خارج: فإذا لم يجز ذلك وكان تقديرك الذي زعمت يؤدي إليه وجب أن تحكم بامتناعه فاعرفه.
وهذا وإنما تجوز نية التأخير في شيء معناه يقتضي له ذلك التأخير، مثل أن كون الاسم مفعولاً لا يقتضي له أن يكون بعد الفاعل فإذا قدم على الفاعل نوي به التأخير ومعنى لكن في الآية يقتضي أن تكون في موضعها الذي هي فيه، فكيف يجوز أن ينوى بها التأخير عنه إلى موضع آخر؟.
أمر اللفظ والنظم فيها فضل شحذ للبصيرة
هذه فصول شتى في أمر اللفظ والنظم فيها فضل شحذ للبصيرة، وزيادة كشف عما فيها من السريرة
البلاغة مرجعها العلم بمواضع المزايا والخصائص
البلاغة ليس مرجعها إلى العلم باللغة، بل العلم بمواضع المزايا والخصائص


الصفحة التالية
Icon