قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ بِسمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ قوله عَزَّ وَجَلَّ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. تعليمٌ منه سُبْحَانَهُ ؛ ليذكُروا اسْمَهُ عند افتتاحِ القراءة وغيرِها ؛ تبَرُّكاً به. ومعناهُ أبدأ :﴿ بِسْمِ اللهِ ﴾ ؛ لأنَّ حرف الباءِ مع سائرِ حروف الجرِّ لا يستغني عن فعلٍ مُضْمَرٍ أو مُظْْهَرٍ ؛ فكان ضميرُ الباء في هذه الآية : الأَمْرُ.
واختلفَ الناسُ في معنى اشتقاقِ الاسم ؛ وأكثرُ أهلِ اللُّغَةِ على أنهُ مشتقٌّ من السُّمُوِّ ؛ وهو الرِّفعةُ. ومعنى الاسمِ التنبيهُ على المسمَّى والدلالةُ عليه. وقال بعضُهم : مشتقٌّ من السِّمَةِ ؛ وهي العلامةُ ؛ فكان الاسمُ علامة للمسمَّى.
وأمَّا ﴿ اللهِ ﴾ فقال بعضُهم : هو اسمٌ لا اشتقاقَ له ؛ مثل قولِكَ : فرسٌ ؛ ورجلٌ ؛ وجبلٌ ؛ ومعناه عند أهل اللِّسان : المستحِقُّ للعبادةِ ؛ ولذلك سَمَّتِ العربُ أصنامَهم : آلِهَةً ؛ لاعتقادهم استحقاقَها للعبادةِ. وقال بعضُهم : هو من قولِهم : ألَهَ الرجلُ إلى فلان يَأْلَهُ إلاَهَةً ؛ إذا فَزِعَ إليه مِنْ أمرٍ نَزَلَ به ؛ فآلَهَهُ أي أجَارَهُ وَأمَّنهُ. ويقال للمَأْلُوهِ إلَيْهِ : إلَهاً. كما قالوا للمُؤتَمَّ به : إمَاماً ؛ فمعناه أن الخلائقَ يَأْلَهُونَ ويتضرَّعون إليه في الحوائجِ والشدائد.
واختلفُوا في ﴿ بِسمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ هل هي آيةٌ من الفاتحةِ ؟ فقال قُرَّاءُ الكوفة : هي آيةٌ منها ؛ وأبَى ذلك أهلُ المدينة والبصرة. وأما قولهُ ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ فهما اسْمان مأخوذان من الرَّحمةِ ؛ وزنُهما من الفعلِ نَدِيْمٌ ونَدْمَانٌ من المنادمةِ، وفَعْلاَنُ أبلغُ من فعيلِ، وهو من أبْنِيَةِ المبالغةِ. ولا يكونُ إلا في الصفات ؛ كقولكَ : شبعانٌ وغضبان ؛ ولِهذا كان اسمُ ﴿ الرَّحْمنِ ﴾ مختصّاً باللهِ لا يوصَفُ به غيره. وأمَّا اسم ﴿ الرَّحِيْمِ ﴾ فمشتركٌ.
وعن عثمان رضي الله عنه عن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" الرَّحْمَنُ الْعَاطِفُ عَلَى جَمِيْعِ خَلْقِهِ بإدْرَار الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ " فالرحمةُ من الله تعالى الإنعامُ على الْمُحتاج ؛ ومن الآدميِّين رقَّة القلب ؛ وإنَّما جمعَ بين الرَّحْمَنِ والرَّحِيْمِ للنهايةِ في الرَّحمة والإحسان بعد الاحتِنَانِ. وعنِ ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنهُ قال :[هُمَا اسْمَانِ رَقِيْقَانِ أحَدُهُمَا أرَقُّ مِنَ الآخَرِ] ولو قال : لَطِيْفَانِ لكان أحسنَ.
وكانَ النبيُّ ﷺ يكتبُ في أوائل الكتب في أوَّل الإسلام :[بسْمِكَ اللَّهُمَّ] حتى نزلَ﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا ﴾[هود : ٤١]. فكتبَ [بسْمِ اللهِ]. ثُم نَزَلَ :﴿ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ ﴾[الإسراء : ١١٠] فَكَتَبَ :[بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ]. فنَزَلَ :﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ﴾[النمل : ٣٠] في سورةِ النَّمل ؛ فكتبَ حينئذٍ :[بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
فإن قيلَ : لِمَ قُدِّمَ اسمُ اللهِ على الرَّحمن ؟ قيل : لأنهُ اسم لا ينبغي إلا للهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقيل في تفسيرِ قولهِ تعالى :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾[مريم : ٦٥] أي هل تعرفُ في السهلِ والجبل والبَرِّ والبحرِ والمشرِق والمغرب أحداً اسْمُهُ اللهُ غيرَ اللهِ ؟ وقيل : هو اسْمُهُ الأعظمُ. وقُدِّمَ الرَّحْمَنَ على الرَّحِيْمِ ؛ لأن الرحمنَ اسم خُصَّ به اللهُ ؛ والرحيمُ مشتركٌ ؛ يقال : رجلٌ رحيمٌ، ولا يقال : رجل رحمنٌ. وقيل : الرَّحْمَنُ أمدحُ ؛ والرحيمُ أرأفُ.
وإنَّما أسقطت الألف من اسمِ الله وأصلهُ باسم الله ؛ لأنَّها كثرت على ألسنةِ العرب عند الأكلِ والشُّرب والقيام والقعود ؛ فحذفت اختصاراً من الخطِّ وإن ذُكرت اسماً غيرهُ من أسماءِ الله لَم تحذفِ الألفُ لقلَّة الاستعمال ؛ نحو قولِكَ : باسمِ الرب، وباسمِ العزيز ؛ وإن أتيتَ بحرفٍ سوى الباء لَمْ تحذفِ الألفَ أيضاً ؛ نحو قولِكَ : لاسمِ الله حلاوةٌ في القلوب ؛ وليس اسمٌ كاسمِ الله. وكذلك باسمِ الرَّحمنِ ؛ واسمِ الجليلِ ؛ و﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾[العلق : ١].