﴿٣٦ - ٣٩﴾ ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾.
يقول تعالى، مبينا اغترار الكافرين: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾ أي: مسرعين.
﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾ أي: قطعا متفرقة وجماعات متوزعة (١)، كل منهم بما لديه فرح.
﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ بأي: سبب أطمعهم، وهم لم يقدموا سوى الكفر، والجحود برب العالمين، ولهذا قال: ﴿كلا﴾ [أي:] ليس الأمر بأمانيهم ولا إدراك ما يشتهون بقوتهم.
﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾ أي: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، فهم ضعفاء، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

(١) في ب: متنوعة.

﴿٤٠ - ٤٤﴾ ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾.
هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب، للشمس والقمر والكواكب، لما فيها من الآيات الباهرات على البعث، وقدرته على تبديل أمثالهم، وهم بأعيانهم، كما قال تعالى: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِيمَا لا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ أي: ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده. فإذا تقرر البعث والجزاء، واستمروا على تكذيبهم، وعدم انقيادهم لآيات الله.
﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة، والعقائد الفاسدة، ويلعبوا بدينهم، ويأكلوا ويشربوا، ويتمتعوا ﴿حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ فإن الله قد أعد لهم فيه من النكال والوبال ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم.
ثم ذكر حال الخلق حين يلاقون يومهم (١) الذي يوعدون، فقال: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ﴾ أي: القبور، ﴿سِرَاعًا﴾ مجيبين لدعوة الداعي، مهطعين إليها ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ أي: [كأنهم إلى علم] يؤمون ويسرعون (٢) أي: فلا يتمكنون من الاستعصاء للداعي، والالتواء لنداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين للقيام بين يدي رب العالمين.
﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ وذلك أن الذلة والقلق قد ملك قلوبهم، واستولى على أفئدتهم، فخشعت منهم الأبصار، وسكنت منهم الحركات، وانقطعت الأصوات.
فهذه الحال والمآل، هو يومهم ﴿الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ ولا بد من الوفاء بوعد الله [تمت والحمد لله].
تفسير سورة نوح
عليه السلام وهي مكية
(١) في ب: اليوم.
(٢) في ب: ويقصدون.

﴿١ - ٢٨﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ﴾.
إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه أرسله (١) إلى قومه، رحمة بهم، وإنذارا لهم من عذاب الله الأليم، خوفا من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله هلاكا أبديا، ويعذبهم عذابا سرمديا، فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله، فقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أي: واضح النذارة بينها، وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه، وبأي: شيء تحصل النجاة، بين جميع ذلك بيانا شافيا، فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما يأمرهم به (٢) فقال: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ وذلك بإفراده تعالى بالتوحيد والعبادة، والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله، فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدر [البقاء في الدنيا] بقضاء الله وقدره [إلى وقت محدود]، وليس المتاع أبدا، فإن الموت لا بد منه، ولهذا قال: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره، فقال شاكيا لربه: ﴿رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا﴾ أي: نفورا عن الحق وإعراضا، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه.
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي: لأجل أن يستجيبوا فإذا استجابوا غفرت لهم فكان هذا محض مصلحتهم، ولكنهم أبوا إلا تماديا على باطلهم، ونفورا عن الحق، ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام، ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ أي تغطوا بها غطاء يغشاهم بعدا عن الحق وبغضا له، ﴿وَأَصَرُّوا﴾ على كفرهم وشرهم ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ على -[٨٨٩]- الحق ﴿اسْتِكْبَارًا﴾ فشرهم ازداد، وخيرهم بعد.
﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا﴾ أي: بمسمع منهم كلهم.
﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ كل هذا حرص ونصح، وإتيانهم بكل باب يظن أن يحصل منه المقصود (٣)،
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها.
﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب.
(١) في ب: أنه أرسل نوحا.
(٢) في ب: وأمرهم بأصل ذلك.
(٣) في ب: بكل طريق يظن به حصول المقصود.


الصفحة التالية
Icon