قوله : ٣٣ - ﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ﴾ قد اختلف في الناس في سبب نزول هذه الآية فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : لأنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد قال ابن المنذر : قول مالك صحيح
قال أبو ثور محتجا لهذا القول : إن قوله في هذه الآية ٣٤ - ﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ يدل على أنها نزلت في غير أهل الشرك لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام انتهى وهكذا يدل على هذا قوله تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ وقوله صلى الله عليه و سلم :[ الإسلام يهدم ما قبله ] أخرجه مسلم وغيره وحكى ابن جرير الطبري في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية : أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه و سلم في العرنيين ووقف الأمر على هذه الحدود وروي عن محمد بن سيرين أنه قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود يعني فعله صلى الله عليه و سلم بالعرنيين وبهذا قال جماعة من أهل العلم وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلى الله عليه و سلم بالعرنيين منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن المثلة والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ وسيأتي سياق الروايات الواردة في سبب النزول والحق أن هذه الآية تعم المشرك وغيره لمن ارتكب ما تضمنته ولا اعتبار بخصوص السبب بل الاعتبار بعموم اللفظ قال القرطبي في تفسيره : ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود انتهى ومعنى قوله مترتب : أي ثابت قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية هي محاربة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومحاربة المسلمين في عصره ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكبارا لحربهم وتعظيما لأذيتهم لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ومخالفة شرائعه ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي وحكم أمته حكمه وهم أسوته والسعي في الأرض فسادا يطلق على أنواع من الشر كما قدمنا قريبا قال ابن كثير في تفسيره : قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب : إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض وقد قال تعالى :﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ﴾ انتهى
إذا تقرر لك ما قررناه من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فسادا فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك سواء كان مسلما أو كافرا في مصر وغير مصر في كل قليل وكثير وجليل وحقير وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى الله عليه و سلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك ولا يجري عليه صلى الله عليه و سلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية وبهذا تعرف ضعف ما روي عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه و سلم لهما حكم غير هذا الحكم
وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية على مقتضى لغة العرب التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها فإياك أن تغتر بشيء من التفاصيل المروية والمذاهب المحكية إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب فأنت وذاك اعمل به وضعه في موضعه وأما ما عداه :
( فدع عنك نهبا صيح في حجراته | وهات حديثا ما حديث الرواحل ) |
وقد أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل ﴾ يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قيل له في هذه الآية يعني قوله :﴿ فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : أي والذي لا إله غيره وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ﴾ قال : نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله وأخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عنه في هذه الآية قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله نبيه فيهم : إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي فهو الضرب في الأرض فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤخذ بما سلف وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه و سلم في طلبهم قافة فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون ﴾ الآية وفي مسلم عن أنس أنه قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه و سلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : إذا خرج المحارب فأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف وإذا خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل وإذا خرج وأخذ المال وقتل قتل وصلب وإذا خرج فأخاف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : من شهر الس