سورة الحديد
هي تسع وعشرون آية
وهي مدنية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحديد بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء ونهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الحجامة يوم الثلاثاء ] وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعا [ لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء ] وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن العرباض بن سارية [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية ] وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يذكر العرباض بن سارية فهو مرسل وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال :[ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات وكان يقول :
إن فيهن آية أفضل من ألف آية ] قال يحيى : فنراها الآية التي في آخر الحشر وقال ابن كثير في تفسيره : والآية المشارة إليها والله أعلم هي قوله :﴿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن ﴾ الآية والمسبحات المذكورة هي : الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن
قوله : ١ - ﴿ سبح لله ما في السموات والأرض ﴾ أي نزهه ومجده قال المقاتلان : يعني كل شيء من ذي روح وغيره وقد تقدم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجن وبلسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل موجود يدل على الصانع وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال : لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة فلم قال :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ وإنما هو تسبيح مقال واستدل بقوله :﴿ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ﴾ فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارة كما في قوله :﴿ وسبحوه ﴾ وباللام أخرى كهذه الآية وأصله أن يكون متعديا بنفسه لأن معنى سبحته : بعدته عن السوء فإذا استعمل باللام فهي إما مزيدة للتأكيد كما في شكرته وشكرت له أو هي للتعليل : أي افعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصا له وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضيا كهذه الفاتحة وفي بعضها مضارعا وفي بعضها أمرا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت بل هي مسبحة أبدا في الماضي وستكون مسبحة أبدا في المستقبل ﴿ وهو العزيز ﴾ أي القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد ولا يمانعه ممانع كائنا ما كان ﴿ الحكيم ﴾ الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب
٧ - قوله ﴿ آمنوا بالله ورسوله ﴾ أي صدقوا بالتوحيد وبصحة الرسالة وهذا خطاب لكفار العرب ويجوز أن يكون خطابا للجميع ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه أو الازدياد منه ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ أي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة فإن المال مال الله والعباد خلفاء الله في أمواله فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه وقيل جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم فلا تبخلوا به كذا قال الحسن وغيره وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبيل الخير قبل أن ينتقل عنهم ويصير إلى غيرهم والظاهر أن معنى الآية الترغيب في الإنفاق في الخير وما يرضاه الله على العموم وقيل هو خاص بالزكاة المفروضة ولا وجه لهذا الخصوص ثم ذكر سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال :﴿ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ﴾ أي الذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله وبين الإنفاق في سبيل الله لهم أجر كبير وهو الجنة
والاستفهام في قوله : ١٠ - ﴿ وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ﴾ للتقريع والتوبيخ والكلام في إعراب هذا كالكلام في إعراب قوله :﴿ وما لكم لا تؤمنون بالله ﴾ وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ هو الإنفاق في سبيل الله كما بينا ذلك والمعنى : أي عذر لكم وأي شيء يمنعكم من ذلك والأصل في أن لا تنفقوا وقيل إن أن زائدة وجملة ﴿ ولله ميراث السموات والأرض ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل ألا تنفقوا أو من مفعوله والمعنى : أي شيء يمنعكم من الإنفاق في ذلك الوجه والحال أن كل ما في السموات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث ولا يبقى لهم منه شيء وهذا أدخل في التوبيخ وأكمل في التقريع فإن كون تلك الأموال تخرج عن أهلها وتصير لله سبحانه ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة وهم خلفاؤه في التصرف فيها ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال :﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ﴾ قيل المراد بالفتح فتح مكة وبه قال أكثر المفسرين وقال الشعبي والزهري : فتح الحديبية قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك وكذا قال مقاتل وغيره وفي الكلام حذف والتقدير : لا يستوي من أنفق من قبل الفتح ﴿ وقاتل ﴾ ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل فحذف لظهوره ولدلالة ما سيأتي عليه وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقل وأضعف وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال والجود بالنفس أقصى غاية الجود والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى من باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره ﴿ أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ﴾ أي أرفع منزلة وأعلى رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عطاء : درجات الجنة تتفاضل فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها قال الزجاج : لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم وكانت بصائرهم أيضا أنفذ
وقد أرشد صلى الله عليه و سلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صح عنه [ لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ
مد أحدهم ولا نصيفه ] وهذا خطاب منه صلى الله عليه و سلم للمتأخرين وصحبه كما يرشد إلى ذلك السبب
الذي ورد فيه هذا الحديث ﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى
وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها قرأ الجمهور ﴿ وكلا ﴾ بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر وقرأ ابن
عامر بالرفع على الابتداء والجملة بعده خبره والعائد محذوف أو على أنه خبر محذوف ومثل هذا قول
الشاعر :
( قد أصبحت أم الخيار تدعي | علي ذنبا كله لم أصنع ) |