سورة النساء
مدنية مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية وثلاثة آلافوخمس وأربعون كلمة وستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الظاهر الملك العلام ﴿الرحمن﴾ الذي عم عباده بالأنعام ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل ولايته بدار السلام وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣١٩
﴿يأيها الناس﴾ خطاب يعم المكلفين من أولاد آدم من الذكور والإناث الموجودين منهم في زمن نبينا ﷺ من العرب وغيرهم، وقيل : يختص بالعرب منهم لقوله تعالى :﴿واتقوا الله الذي
٣٢٠
تساءلون به والأرحام﴾
إذ المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون : أنشدك بالله وبالرحم، وأجيب بأنّ خصوص آخر الآية لا يمنع عموم أوّلها ﴿اتقوا ربكم﴾ أي : عذابه بأن تطيعوه ﴿الذي خلقكم من نفس واحدة﴾ أي : فرّعكم من أصل واحد، وهو نفس آدم أبيكم.
وقوله تعالى :﴿وخلق منها زوجها﴾ معطوف على "خلقكم" أي : خلقكم من شخص واحد هو آدم، وخلق منها أمكم حوّاء بالمدّ من ضلع من أضلاعه اليسرى، أو معطوف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها وابتدأها وخلق منها زوجها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء، وهو تقرير لخلقكم من نفس واحدة، وقوله تعالى :﴿وبث منهما﴾ أي : من آدم وحوّاء ﴿رجالاً كثيراً ونساء﴾ أي : كثيراً بيان لكيفية تولدهم منهما.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢٠
والمعنى : وبث أي : نشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة، وذكر كثيراً حملاً على الجمع ولا تكرار في الآية ؛ لأن خلقكم من نفس واحدة مغاير لخلق حوّاء منها ؛ لأنها خلقت من ضلعه وهم من مائهما ولبث الرجال والنساء ؛ لأنه بين به أن خلقهم من نفس واحدة معناه من نفس آدم وحوّاء مع زيادة التصريح بالرجال والنساء ﴿واتقوا الله الذي تساءلون﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في السين أي : تتساءلون ﴿به﴾ فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض : أسألك بالله، وأنشدك بالله.
فإن قيل : الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويبعث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجباً للتقوى وداعياً إليها ؟
أجيب : بأنّ ذلك مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على ذلك كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة، فالنظر فيه يؤدّي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه ؛ ولأنه يدل على النعمة السابقة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها، والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف السين والباقون بتشديدها ﴿و﴾ اتقوا ﴿الأرحام﴾ أي : بأن تصلوها ولا تقطعوها، وكانوا يتناشدون بالرحم، وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه على أن صلتها بمكان منه تعالى.
روى الشيخان أنه ﷺ قال :"الرحم معلقة بالعرش تقول : ألا من وصلني وصله الله تعالى ومن قطعني قطعه الله تعالى"، وقرأ غير حمزة بالنصب عطفاً على الله تعالى فالعامل فيه اتقوا كما قدرته أو معطوف على محل الجار والمجرور كقولك : مررت بزيد وعمراً، وأما حمزة فقرأه بالجر عطفاً على الضمير المجرور، وقول البيضاوي : وهو ضعيف أي : كما هو مذهب البصريين ممنوع، والحق أنه ليس بضعيف فقد جوّزه الكوفيون، وكيف يكون ضعيفاً والقراءة به متواترة ؟
فيجب أن يضعف كلام البصريين ويرجع إلى كلام رب العالمين، وتعليلهم عدم الجواز بكونه كبعض كلمة لا يقتضي إلحاقه به في عدم جواز العطف إذ حذف الشيء مع القرينة جائز ومنه :
٣٢١
*رسم دار وقفت في طلله*
أي : ورب رسم دار وقول الشاعر :
*اذهب فما بك والأيام من عجب
﴿إنّ الله كان عليكم رقيباً﴾ أي : حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها أي : لم يزل متصفاً بذلك ﴿وآتوا اليتامى﴾ أي : بعد البلوغ والرشد ﴿أموالهم﴾ وسموا اليتامى بعد البلوغ مع أنّ اليتيم في عرف الشرع صغير لا أب له على معنى أنهم كانوا يتامى، وإن كان اليُتْيم في اللغة الانفراد، ومنه الدرّة اليتيمة، وقيل : اليتيم في الإناس من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات وفي الطير من قبلهما، والخطاب للأولياء والأوصياء.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢٠
روي أنّ رجلاً كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال من عمه فمنعه فترافعا إلى النبيّ ﷺ فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله، فقال النبيّ ﷺ "ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحله داره" أي : جنته، وسيأتي تفسير الحوب الكبير، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبيّ ﷺ "ثبت الأجر وبقي الوزر" فقالوا : يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟
فقال :"ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده" أي : ولعله كان لا يخرج زكاته ﴿ولاتتبدلوا الخبيث﴾ أي : الحرام ﴿بالطيب﴾ أي : الحلال أي : لا تأخذوه بدله كما تفعلون في أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه.
قال الزمخشريّ : وهذا ليس بتبدل، وإنما هو تبديل، قال التفتازانيّ : لأن معنى تبدلت هذا بذاك أنك أخذت هذا وتركت ذاك وكذا استبدلت ؛ لأنّ معنى بدلت هذا بذاك أخذت ذاك وأعطيت هذا قال تعالى :﴿ومن يتبدل الكفر بالإيمان﴾ (البقرة، ١٠٨)
فإذا أعطى الرديء وأخذ الجيد فقد أعطى الخبيث وأخذ الطيب كما لو أخذ الخبيث وترك الطيب ؛ ليكون تبدل الخبيث بالطيب، فالحاصل أنّ في التبدل ما دخلته الباء متروك، وما تعدى إليه الفعل بنفسه مأخوذ وفي التبديل بالعكس اه. وقد أوضحت ذلك في "شرح المنهاج" ﴿ولا تأكلوا أموالهم إلى﴾ أي : مع ﴿أموالكم﴾ كقوله تعالى :﴿من أنصاري إلى الله﴾ (آل عمران، ٥٢)
أي : مع الله، أي : لا تنفقوهما معاً، ولا تسووا بينهما، فأكلكم أموالكم حلال لكم، وأكلكم أموالهم حرام عليكم، فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم.


الصفحة التالية
Icon