سورة الحجر
مكية
وهي تسع وتسعون آية وستمائة وأربع وخمسون كلمة، وعدد حروفها ألفان وسبعمائة وستون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الملك الواحد القهار ﴿الرحمن﴾ الذي أسبغ نعمه على سائر بريته، فعجزت عن وصفه الأفكار ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل ولايته بنجاتهم من النار، وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٦
﴿الر﴾ ذكر فيه الفتح والإمالة أوّل يونس. وقيل : معناه : أنا الله أرى، وقدّمنا الكلام على أوائل السور في أوّل سورة البقرة، وقوله تعالى :﴿تلك﴾ إشارة إلى آيات هذه السورة، أي : هذه الآيات ﴿آيات الكتاب﴾، أي : القرآن، والإضافة بمعنى من، وقوله تعالى :﴿وقرآن مبين﴾، أي : مظهر للحق من الباطل عطف بزيادة صفة. وقيل : المراد بالكتاب هو السورة، وكذا القرآن، وقيل : المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وبالقرآن هذا الكتاب. ثم بيّن سبحانه وتعالى حال الكفار يوم القيامة بقوله تعالى :
﴿ربما يودّ﴾، أي : يتمنى ﴿الذين كفروا﴾ إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين في ذلك اليوم ﴿لو كانوا مسلمين﴾ وقيل : حين يعاينوا
٢١٧
حال المسلمين عند نزول النصر وحلول الموت، ورب للتكثير، فإنه يكثر منهم تمنى ذلك. وقيل : للتقليل، فإنّ الأهوال تدهشهم، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. فإن قيل : لم دخلت رب على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي ؟
أجيب : بأنّ المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحقيقه، فكأنه قيل : ربما ودّ. وقرأ عاصم ونافع بتخفيف باء ربما، والباقون بالتشديد. قال أبو حاتم : أهل الحجاز يخففون ربما، وقيس وبكر يثقلونها، ولما تمادوا في طغيانهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٧
ذرهم﴾
، أي : دعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم ﴿يأكلوا ويتمتعوا﴾ بدنياهم وتنفيذ شهواتهم، والتمتع التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال. ﴿ويلههم الأمل﴾، أي : ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار، واستقامة الأحوال عن أخذ حظهم من السعادة، وعن الاستعداد للمعاد. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي برفع الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء ورفع الميم. وأمّا الوقف فالجميع بكسر الهاء، والكلام على الهاء الثانية، وأمّا الهاء الأولى فمكسورة للجميع وقفاً ووصلاً. ولما كان هذا أمراً لا يشتغل به إلا أحمق تسبب عنه التهديد بقوله تعالى :﴿فسوف يعلمون﴾، أي : ما يحل بهم بعدما فسحنا لهم في زمن التمتع من سوء صنيعهم، وهذا قبل الأمر بالقتال. تنبيه : في الآية دليل على أنّ إيثار التلذذ والتنعم في الدنيا يؤدّي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم : التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين والأخبار في ذم الأمل كثيرة منها قوله ﷺ "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر". وعن علي رضي الله تعالى عنه : إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى، فإنّ طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدّ عن الحق. ولما هددهم تعالى بآية التمتع وإلهاء الأمل أتبعه بما يؤكد الزجر. بقوله تعالى :
﴿وما أهلكنا من قرية﴾، أي : من القرى، والمراد أهلها ومن مزيدة ﴿إلا ولها كتاب معلوم﴾، أي : أجل مضروب محدود مكتوب في اللوح المحفوظ لهلاكها. تنبيه : المستثنى جملة واقعة صفة لقرية والأصل أن لا تدخلها الواو، كقوله تعالى :﴿إلا لها منذرون﴾ (الشعراء، ٢٠٨)
وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب. فائدة : رسم كتاب هنا بإثبات الألف. ثم بيّن تعالى الآية السابقة بقوله تعالى :
﴿ما تسبق﴾ وأكد الاستغراق بقوله تعالى :﴿من أمة﴾ وقيل : من مزيدة كقولك : ما جاءني من أحد، أي : أحد وبيّن أنّ المراد بالكتاب الأجل بقوله تعالى :﴿أجلها﴾، أي : الذي قدّرناه لها. ﴿وما يستأخرون﴾، أي : عنه. تنبيه : أنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً حملاً على اللفظ الأوّل وعلى المعنى في الثاني. قال البقاعي : وإنما ذكره لئلا يصرفوه إلى خطابه ﷺ تعنتاً وفي الآية دليل على أنّ كل من مات أو قتل
٢١٨
فإنما مات بأجله وإن من قال بجواز أن يموت قبل أجله مخطئ. ولما بالغ تعالى في تهديد الكفار ذكر شبههم في إنكار نبوّته ﷺ بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٧
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر﴾
، أي : القرآن في زعمه ﴿إنك لمجنون﴾ إنما نسبوه إلى الجنون إما لأنهم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله لأنّ الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال به جنون، وإما لأنه عليه الصلاة والسلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون ويدل عليه قوله تعالى :﴿أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة﴾ (الأعراف، ١٨٤)
ثم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا :
﴿لو ما﴾، أي : هلا ﴿تأتينا بالملائكة﴾، أي : يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقاً. ﴿إن كنت من الصادقين﴾ في إدعائك للرسالة وأنّ هذا القرآن من عند الله ولما كان في قولهم أمران أجاب الله تعالى عن قولهم الثاني لأنه أقرب بقوله تعالى :
﴿وما ننزل الملائكة إلا بالحق﴾، أي : إلا تنزلاً ملتبساً بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن نأتيكم بهم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبيّ ﷺ لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى :﴿وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ (الحجر، ٨٥)
وقيل الحق الوحي أو العذاب. وقرأ شعبة بضم التاء مع فتح الزاي ورفع الملائكة وحفص وحمزة والكسائي بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة وكسر الزاي ونصب الملائكة والباقون بالتاء مفتوحة مع فتح الزاي ورفع الملائكة وشدّد التاء البزي في الوصل، وأما الزاي فهي مشدّدة للجميع من يفتح ومن يكسر ﴿وما كانوا﴾، أي : الكفار ﴿إذاً﴾، أي : إذ تأتيهم الملائكة ﴿منظرين﴾، أي : لزوال الإمهال عنهم فيعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدّقوا وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم ثم أجاب تعالى عن الأوّل بقوله تعالى مؤكذاً لتكذيبهم :
﴿إنا نحن﴾ بما لنا من العظمة والقدرة ﴿نزلّنا﴾، أي : بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام ﴿الذكر﴾، أي : القرآن ﴿وإنا له لحافظون﴾، أي : من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى :﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ (النساء، ٨٢)


الصفحة التالية
Icon