سورة المطففين
مدنية
في قول الحسن وعكرمة ومقاتل.
قال مقاتل : وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا ثمان آيات وهي قوله تعالى :﴿إن الذين أجرموا﴾ إلى آخرها فهو مكيّ. وقال الكلبي وجابر بن زيد نزلت بين مكة والمدينة، ولعل هذا هو سبب الاختلاف وقال ابن مسعود والضحاك : مكية.
وهي ست وثلاثون آية وتسع وتسعون كلمة وسبعمائة وثمانون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي توكل عليه كفاه ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ جوده الأبرار والعصاة ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل طاعته بهداه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦٧
﴿ويل﴾ مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، وهو إمّا كلمة عذاب أو هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة، أو واد في جهنم. وقوله تعالى :﴿للمطففين﴾ خبره، والتطفيف البخس في الكيل والوزن ؛ لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. قال الزجاج : وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان : مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.
وروى ابن عباس أنّ رسول الله ﷺ قدم المدينة، وكانوا من أبخس الناس كيلاً فنزلت فأحسنوا الكيل، فخرج رسول الله ﷺ فقرأها عليهم وقال :"خمس بخمس" قيل : يا رسول الله ما خمس ؟
قال :"ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوّهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر". وقال : السدي : قدم رسول
٥٦٨
الله ﷺ المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت.
وقيل : كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت. وعن عليّ أنه مرّ برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له : أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت كأنه أمر بالتسوية أوّلاً ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين، كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمرّ بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إنّ العرق يلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وعن عكرمة أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار فقيل له : إن ابنك كيال أو وزان فقال : أشهد أنه في النار. وعن أبيّ : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين.
ثم بين تعالى المطففين من هم بقوله تعالى :﴿الذين إذا اكتالوا﴾ أي : عالجوا الكيل ﴿على الناس﴾ أي : كائنين من كانوا لا يخافون شيئاً، ولا يراعون أحداً بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدناً ﴿يستوفون﴾ أي : إذا كالوا منهم وأبدل على مكان من للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال يضرهم ويتحامل فيه عليهم، ويجوز أن يتعلق على بيستوفون ويقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي : يستوفون على الناس خاصة، وأمّا أنفسهم فيستوفون لها. وقال الفراء : من وعلى يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه، فإذا قال : اكتلت عليك فكأنه قال : أخذت ما عليك، وإذا قال : اكتلت منك فكقوله : استوفيت منك.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦٨
وإذا كالوهم﴾
أي : كالوا للناس أي : حقهم، أي : مالهم من الحق ﴿أو وزنوهم﴾ أي : وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال القائل :
*ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً ** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر*
وقال آخر : والحريص بصيدك لا الجواد. بمعنى جنيت لك ويصيد لك ويقال : وزنتك حقك، وكلتك طعامك، أي : وزنت لك وكلت لك، ونصحتك ونصحت لك، وكسبتك وكسبت لك والأكمؤ جمع كمأة، والعساقل ضرب منها، وأصله : عساقيل لأنّ واحدها عسقول كعصفور فحذفت الياء للضرورة، وبنات أوبر ضرب من الكمأة رديء.
﴿يخسرون﴾ جواب إذا، وهو يتعدى بالهمزة. يقال : خسر الرجل وأخسرته أنا مفعوله محذوف، أي : يخسرون الناس متاعهم. وقيل : يخسرون أي : ينقصون بلغة فارس أي : ينقصون الكيل أو الوزن.
وقوله تعالى :﴿ألا يظنّ أولئك﴾ أي : الأخساء البعداء الأراذل ﴿أنهم مبعوثون ليوم﴾ أي : لأجله أو فيه، وزاد التهويل بقوله تعالى :﴿عظيم﴾ إنكاراً وتعجيباً من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة
٥٦٩
والخردلة. وقيل : الظنّ بمعنى اليقين. وقوله تعالى :
﴿يوم﴾ يجوز نصبه بمبعوثون، أو بإضمار أعني، أو بدل من محل يوم فناصبه يبعثون ﴿يقوم الناس﴾ أي : من قبورهم ﴿لرب العالمين﴾ أي : الخلائق لأجل أمره وجزائه وحسابه. وعن ابن عمر أنّ النبيّ ﷺ قال :"يوم يقول الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه". وعن المقداد قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد. حتى تكون قيد ميل أو اثنين ـ قال سليم : لا أدري أي : الميلين يعني : مسافة الأرض أو الميل الذي تكتحل به العين ـ قال : فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه على حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، فرأيت رسول الله ﷺ وهو يشير بيده إلى فيه يقول : ألجمه إلجاماً". وعن قتادة : أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل : بخس الميزان سواد الوجوه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان أنّ أعرابياً قال له : سمعت ما قال الله في المطففين أراد بذلك أنّ المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم، الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن، وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظنّ ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لله تعالى خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط والعمل على السوية، والعدل في كل أخذ وإعطاء بل في كل قول وعمل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٦٨


الصفحة التالية
Icon