سورة الغاشية
مكية بالإجماع
وهي ست وعشرون آية واثنان وتسعون كلمةوثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفاً
﴿بسم الله﴾ علام الغيوب ﴿الرحمن﴾ كاشف الكروب ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بالعفو عن الذنوب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠١
وقوله سبحانه وتعالى :﴿هل أتاك حديث الغاشية﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنّ هل بمعنى قد، أي : قد جاءك يا أشرف الخلق حديث الغاشية، كقوله تعالى :﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر﴾ (الإنسان : ١)
. قال قطرب : والثاني : أنه استفهام على حاله، وتسميه أهل البيان التشويق، والمعنى : إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك وهو معنى قول الكلبي، والغاشية : الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها وهي القيامة من قوله :﴿يوم يغشاهم العذاب﴾ (العنكبوت : ٥٥)
وقيل : هي النار من قوله تعالى :﴿وتغشى وجوههم النار﴾ (إبراهيم : ٥٠)
﴿ومن فوقهم غواش﴾ (الأعراف : ٤١)
. وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى الخلق. وقيل : الغاشية أهل النار يغشونها ويقتحمون فيها.
﴿وجوه﴾، أي : كثيرة جدّاً كائنة ﴿يومئذ﴾، أي : يوم إذ غشيت ﴿خاشعة﴾، أي : ذليلة من الخجل والفضيحة والخوف من العذاب، والمراد بالوجوه في الموضعين : أصحابها.
﴿عاملة ناصبة﴾، أي : ذات نصب وتعب. قال سعيد بن جبير عن قتادة : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى فأعملها الله تعالى وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال وحمل الأغلال،
٦٠٢
والوقوف حفاة عراة في العَرَصَات في يوم كان مقداره ألف سنة. وقال ابن مسعود : تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. وقال الحسن : لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال ابن عباس : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى على الكفر، مثل عبدة الأوثان والرهبان وغيرهم لا يقبل الله تعالى منهم إلا ما كان خالصاً له. وعن علي أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله ﷺ فقال :"تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" الحديث.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠٢
وقرأ ﴿تصلى﴾ أبو عمرو وشعبة بضم التاء الفوقية على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتحها على تسمية الفاعل، والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. والمعنى : تدخل ﴿ناراً حاميةً﴾، أي : شديدة الحرّ قد أحميت وأوقدت مدّة طويلة، ومنه حمى النار بالكسر، أي : اشتدّ حرّه. وحكى الكسائي اشتدّ حمى الشمس وحموها بمعنى. قال ﷺ "أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسوّدت فهي سوداء مظلمة". وقيل : المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً فيجمعون فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأمّا ما شوي فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور فلا يسمى مصلياً.
ولما بين تعالى مكانهم ذكر شرابهم فقال تعالى :﴿تسقى من عين آنية﴾، أي : شديدة الحرارة كقوله تعالى :﴿بين حميم آن﴾ (الرحمن : ٤٤)
متناه في الحرارة. روي أنه لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.
ولما ذكر تعالى شرابهم أتبعه بذكر طعامهم فقال تعالى :﴿ليس لهم طعام إلا من ضريع﴾ قال مجاهد : هو نبت ذو شوك لاطىء بالأرض تسميه قريش الشبرق، فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه. قال الكلبي : لا تقربه دابة إذا يبس. وقال ابن زيد : أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار. وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه :"الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة، وأشد حرّاً من النار" قال أبو الدرداء والحسن :"إنّ الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية لا هنيئة ولا مريئة، فلما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها فإذا وصل بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى :﴿وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم﴾ (محمد : ١٥)
. قال بعض المفسرين : فلما نزلت هذه الآية قال المشركون : إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك فإنّ الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً ويسمى شبرقاً فإذا يبس لا يأكله شيء. قال أبو ذؤيب يصف حماراً :
*رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ** وصار ضريعاً بان عنه النحائص*
٦٠٣
والنحوص : من الأتن التي لا لبن لها.
ولما قالوا ذلك أنزل الله تعالى تكذيباً لهم :﴿لا يسمن ولا يغني﴾، أي : يكفي كفاية مبتدأة ﴿من جوع﴾ فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال فنفى السمن والشبع عنه، وعلى تقدير أن يصدقوا فيكون المعنى : أنّ طعامكم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع. فإن قيل : كيف قيل :﴿ليس لهم طعام إلا من ضريع﴾ وفي الحاقة :﴿ولا طعام إلا من غسلين﴾ (الحاقة : ٣٦)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠٢
أجيب : بأنّ العذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم.
ولما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فقال تعالى :﴿وجوه يومئذٍ﴾، أي : يوم تغشى الناس ووصفها بصفات الأولى قوله تعالى :﴿ناعمة﴾، أي : ذات بهجة وحسن كقوله تعالى :﴿تعرف في وجوههم نضرة النعيم﴾ (المطففين : ٢٤)
أو متنعمة. قال مقاتل : في نعمة وكرامة. الصفة الثانية : قوله تعالى :
﴿لسعيها﴾، أي : في الدنيا بالأعمال الصالحة ﴿راضيةٌ﴾، أي : في الآخرة بثواب سعيها حين رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة الصفة الثالثة قوله تعالى :
﴿في جنة﴾ ثم توصف الجنة بصفات الأولى قوله تعالى :﴿عالية﴾، أي : علية المحل والقدر، والصفة الثانية : قوله تعالى :