سورة القدر
مدنية
في قول أكثر المفسرين، وحكى الماوردي عكسه، وذكر الواحدي أنها أوّل سورة نزلت بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنتا عشر حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الملك الأعظم الذي لا يعبد إلا إياه ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بجوده جميع خلقه أقصاه وأدناه ﴿الرحيم﴾ الذي قرّب أهل طاعته وأبعد من عداهم وأشقاه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٤٩
وقوله تعالى :﴿إنا أنزلناه﴾ أي : بما لنا من العظمة، أي : القرآن فيه تعظيم له من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره.
والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه.
والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه، وهو قوله تعالى :﴿في ليلة القدر﴾.
﴿وما أدراك﴾ أي : أعلمك يا أشرف الخلق ﴿ما ليلة القدر﴾ فإن في ذلك تعظيماً لشأنها. روي أنه أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله ﷺ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحاجة إليه. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي ﷺ عشرين سنة. قال ابن العربي : وهذا باطل ليس بين جبريل وبين الله تعالى واسطة، ولا بين جبريل وبين محمد ﷺ واسطة، وعن الشعبي : إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل : المعنى أنزل في شأنها وفضلها فليست ظرفاً، وإنما هو كقول عمر رضي الله عنه : خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها لأنا أحقر في شأني أن ينزل فيّ قرآن. وسميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة، وهم إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل عليهم السلام، كقوله تعالى :﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ (الدخان : ٤)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة
٦٥٤
نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وهذا يصلح أن يكون جمعاً بين القولين في قوله تعالى :﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ فإنه قيل فيها : إنها ليلة النصف من شعبان وقيل : ليلة القدر وحينئذ لا خلاف، وقيل : سميت بذلك لتضيقها بالملائكة. قال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى :﴿ومن قدر عليه رزقه﴾ (الطلاق : ٧)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥٤
وقيل : سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها من قولهم : لفلان قدر، أي : شرف ومنزلة قاله الأزهري وغيره. وقيل : سميت بذلك لأن للطاعة قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. وقيل : لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر على رسول ذي قدر، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال : أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة، ويعرّفهم إياه، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل قيل : للحسين بن الفضل : أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض، قال نعم، قيل له : فما معنى ليلة القدر، قال : سوق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدّر.
واختلفوا هل هي باقية أو لا ؟
فقيل : إنها كانت مرّة ثم انقطعت، وقيل : إنها رفعت بعد النبي ﷺ والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال : قلت لأبي بكر : زعموا أن ليلة القدر قد رفعت، قال : كذب من قال ذلك، قلت : هي في كل شهر رمضان أستقبله، قال : نعم. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب، أم هي في كل عام، فقال : بل هي لأمة محمد ﷺ ما بقي منهم اثنان، واستدل من قال برفعها بقوله ﷺ حين تلاحى الرجلان :"إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم" وهذا غفلة من هذا القائل ففي آخر الحديث "فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.
واختلفوا في وقتها فأكثر أهل العلم أنها مختصة برمضان، واحتجوا بقوله تعالى :﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾ (البقرة : ١٨٥)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥٤