سورة لم يكن
وتسمى القيامة، وتسمى المنفكين مكية في قول يحيى بن سلام، ومدنية في قول الجمهور، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة وثلاث مائة وتسعون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي لا يخرج شيء عن مراده ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بنعمه جميع عباده ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بإسعاده.
ولما كان الكفار جنسين أهل كتاب ومشركين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥٩
﴿لم يكن الذين كفروا﴾ أي : في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال ﴿من أهل الكتاب﴾ أي : من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا. ﴿والمشركين﴾ أي : بعبادة الأصنام والنار والشمس، ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق، بأن لم يكن لهم كتاب.
تنبيه : من للبيان. وقوله تعالى :﴿منفكين﴾ خبر يكن، أي : منفصلين وزائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا تبقى لهم به علقة، ويثبتون على ذلك الانفكاك، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً من فك الكتاب والختم والعظم إذا أزيل ما كان ملتصقاً أو متصلاً به، أو عن الموعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به، فإنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون به، والمشركين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم.
٦٦٠
فإن قيل : لِمَ قال تعالى :﴿كفروا﴾ بلفظ الماضي، وذكر المشركين باسم الفاعل ؟
أجيب : بأنّ أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أوّل الأمر، لأنهم كانوا مصدّقين بالتوراة والإنجيل وبمبعث محمد ﷺ بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وذلك يدل على الثبات على الكفر.
وقوله تعالى :﴿حتى﴾ أي : إلى أن ﴿تأتيهم البينة﴾ متعلق بيكن أو بمنفكين، والبينة الآية التي هي البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا طوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول ﷺ وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب، وهو القرآن.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٠
وقوله تعالى :﴿رسول﴾ أي : عظيم جدّاً بدل من البينة بنفسه، أو بتقدير مضاف، أي : سنة رسول، أو مبتدأ وزاد عظمته بقوله تعالى واصفاً له :﴿من الله﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام وهو محمد ﷺ لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سراجاً منيراً، ولأنّ اللام في البينة للتعريف، أي : هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى عليهم السلام. وقد يكون التعريف للتفخيم ؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير وقد جمعها الله تعالى ههنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم
ونظيره : قوله تعالى حين أثنى على نفسه :﴿ذو العرش المجيد فعال لما يريد﴾ (البروج، الآيتان : ١٥ ـ ١٦)
فنكر بعد التعريف. وقال أبو مسلم : المراد من البينة مطلق الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء التوراة أو الزبور أو الانجيل أو القرآن، وعبر بالمضارع لتجدّد البيان في كل وقت بتجدّد الرسالة والتلاوة. وقال البغوي : لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي : حتى أتتهم البينة، وتبعه على ذلك الجلال المحلى. وقوله تعالى :﴿يتلو صحفاً﴾ صفة الرسول، أو خبره والرسول ﷺ وإن كان أمّياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل : المراد جبريل عليه السلام وهو التالي للصحف المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس، ولا بدّ من مضاف محذوف وهو الوحي. والصحف جمع صحيفة وهي : القرطاس، والمراد فيها عبر بها عنه لشدّة المواصلة ﴿مطهرة﴾ أي : في غاية الطهارة والنزاهة من كل قذر مما جعلنا لها من البعد عن الأدناس بأنّ الباطل من الشرك بالأوثان، وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وأنها لا يمسها إلا المطهرون.
﴿فيها﴾ أي : تلك الصحف ﴿كتب﴾ أي : أحكام مكتوبة ﴿قيمة﴾ أي : مستقيمة ناطقة بالحق والعدل الذي لا مرية فيه ليس فيه شرك، ولا اعوجاج بنوع من الأنواع.
﴿وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب﴾ أي : عما كانوا عليه، وخص أهل الكتاب بالتفرق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين، لأنهم يظنون بهم علماً فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. ﴿إلا من بعد جاءتهم البينة﴾ أي : أتتهم البينة الواضحة، والمعنيّ به محمد ﷺ أتى بالقرآن موافقاً للذي في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته، وذلك أنهم كانوا مجمعين على نبوته فلما بعث ﷺ جحدوا نبوّته وتفرّقوا، فمنهم من كفر بغياً وحسداً ومنهم من آمن كقوله تعالى :﴿وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم﴾ (الشورى : ١٤)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٠
وقال تعالى :﴿وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به﴾ (البقرة : ٨٩)
وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق لا تفرّقهم فيه. وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم
٦٦١
محضة، والباقون بالفتح.
ولما كان حال من أضل على علم أشنع زاد في فضيحتهم فقال تعالى :
﴿وما أمروا﴾ أي : هؤلاء في التوراة والإنجيل ﴿إلا ليعبدوا الله﴾ أي : يوحدوا الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره، واللام بمعنى أن كقوله تعالى :﴿يريد الله ليبين لكم﴾ (النساء : ٢٦)
. وقوله تعالى :﴿مخلصين له الدين﴾ فيه دليل على وجوب النية في العبادات لأنّ الإخلاص من عمل القلب، وهو أن يراد به وجه الله تعالى لا غيره، ومن ذلك قوله :﴿إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين﴾ (الزمر : ١١)
. ﴿حنفاء﴾ أي : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصل الحنف في اللغة : الميل وخصه العرف بالميل إلى الخير، وسموا الميل إلى الشرّ إلحاداً والحنيف المطلق الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمسة اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين. وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات، وعن توابعها من الخطأ والنسيان إلى العمل الصالح، وهو مقام التقى، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأوّل من الورع، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى ما يعنى وهو المقام الثاني من الورع، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص. الناظر : أحدهما : إلى الحق، والثاني : إلى الخلق.
ولما ذكر أصل الدين أتبعه الفروع، وبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع التجرّد عن العوائق، فقال عز من قائل :﴿ويقيموا﴾ أي : يعدلوا من غير اعوجاج بجميع الشرائط والأركان والحدود ﴿الصلاة﴾ لتصير بذلك أهلاً بأن تقوم بنفسها، وهي من التعظيم لأمر الله تعالى.