سورة والعاديات
مكية
في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس ابن مالك، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل ﴿الرحمن﴾ الذي نعمته أتم نعمة وأشمل ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.
وقوله سبحانه وتعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٨
﴿والعاديات ضبحاً﴾ قسم أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح، والضبح : صوت أنفاسها إذا عدون. وعن ابن عباس أنه حكاه فقال : أح أح، قال عنترة :
*والخيل تكدح حين تض ** بح في حياض الموت ضبحا*
وانتصاب ضبحاً على يضبحن أو بالعاديات، كأنه قيل : والضابحات ضبحاً لأنّ الضبح يكون مع العدو، أو على الحال، أي : ضابحات، والعاديات جمع عادية وهي الجارية بسرعة من العدو وهو المشي بسرعة.
وعن ابن عباس : كنت جالساً في الحجر فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليّ رضي الله عنه، وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال : ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان ؛ فرس للزبير وفرس للمقداد العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. قال الزمخشري : فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر وما أشبه ذلك. قال ابن عباس : وليس شيء من الحيوان يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، ونقل غيره أنّ الضبح يكون في الإبل والأسود من
٦٦٩
الحيات والبوم والضرو والأرنب والثعلب والفرس.
ثم اتبع عدوها ما ينشأ عنه فقال تعالى عاطفاً بأداة التعقيب :
﴿فالموريات قدحاً﴾ قال عكرمة والضحاك : هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة لا سيما عند سلوك الأوعار، وقدحاً منصوب لما انتصب به ضبحاً. قال الزمخشري : ففيه الثلاثة أوجه المتقدّمة. وعن ابن عباس : أورت بحوافرها غباراً، وهذا إنما يناسب من فسر العاديات بالإبل. وقال ابن مسعود : هي الإبل تطأ الحصى فتخرج منه النار أصل القدح : الاستخراج، ومنه قدحت العين إذا أخرجت منها الماء الفاسد. وعن قتادة وابن عباس أيضاً : أنّ الموريات قدحاً الرجال في الحرب، والعرب تقول : إذا أرادوا أنّ الرجل يمكر بصاحبه والله لأمكرنّ بك ثم لأورين لك، وعن ابن عباس أيضاً : هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل لحاجتهم وطعامهم، وعنه أيضاً : إنها نيران المجاهدين إذا كثرت إرهاباً ليظنهم العدوّ كثيراً قال القرطبي : وهذه الأقوال مجاز كقولهم : فلان يوري زناد الضلالة والأوّل الحقيقة وأنّ الخيل من شدّة عدوها تقدح النار بحوافرها. وقال مقاتل : تسمى تلك النار نار أبي حباب، وأبو حباب كان شيخاً من مضر في الجاهلية من أبخل الناس، وكان لا يوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون فيوقد نويرة تقد مرّة وتخمد أخرى، فإن استيقظ لها أحداً أطفأها كراهة أن ينتفع بها أحد، فشبهت العرب هذه النار بناره لأنه لا ينتفع بها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٩
ولما ذكر العدو وما يتأثر عنده ذكر نتيجته وغايته بقوله :
﴿فالمغيرات﴾ أي : بإغارة أهلها وقوله تعالى :﴿صبحاً﴾ ظرف، أي : التي تغير وقت الصبح يقال أغار بغير إغارة إذا باغت عدوّه لنهب أو قتل أو أسر، قال الشاعر :
*فليت لي بهم قوماً إذا اركبوا ** شنوا الإغارة فرساناً وركبانا*
وغار لغية.
﴿فأثرن﴾ أي : فهيجن ﴿به﴾ أي : بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدّة العدو ﴿نقعاً﴾ أي : غبار الشدّة حركتهنّ والنقع الغبار.
تنبيه : عطف الفعل وهو فأثرن على الاسم لأنه في تأويل الفعل لوقوعه صلة لأل. وقال الزمخشري : معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.
﴿فوسطن به﴾ أي : بذلك النقع أو العدو أو الوقت ﴿جمعاً﴾ من العدوّ، أي : صرن وسط العدو وهو الكتيبة، يقال : وسطت القوم بالتخفيف ووسطتهم بالتشديد، وتوسطتهم بمعنى واحد. وقال القرطبي : يعني جمع منى وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا أنّ الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة وتعريضه بإبل الحج للترغيب فيه، وفيه تعريض على من لم يحج بعد القدرة عليه كما في قوله تعالى :﴿ومن كفر﴾ أي : من لم يحج ﴿فإنّ الله غنيّ عن العالمين﴾ (آل عمران : ٩٧)
٦٧٠
وجواب القسم قوله تعالى :
﴿إنّ الإنسان﴾ أي : هذاالنوع بما له من الإنس بنفسه والنسيان لما ينفعه ﴿لربه﴾ المحسن إليه بإبداعه ثم بإبقائه وتدبيره وتربيته ﴿لكنود﴾ قال ابن عباس : لكفور جحود لنعم الله تعالى. وقال الكلبي : هو بلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كندة وحضرموت العاصي. وقال الحسن : هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم وقال أبو عبيدة : هو قليل الخير والأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً، وفي الحديث عن أبي امامة هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده. وقال الفضيل بن عياض : الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة.
﴿وإنه﴾ أي : الإنسان ﴿على ذلك﴾ أي : الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه ﴿لشهيد﴾ أي : يشهد على نفسه ولا يقدّر أن يجحده لظهور أثره عليه، أو أن الله تعالى على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد.
﴿وإنه﴾ أي : الإنسان من حيث هو ﴿لحب﴾ أي : لأجل حب ﴿الخير﴾ أي : المال الذي لا يعدّ غيره لجهله خيراً ﴿لشديد﴾ أي : بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأنّ منفعته في الدنيا، وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأنّ أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه تعالى، ومع ذلك فهو لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة ربه وشكر نعمته ضعيف متقاعس.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٩
ثم سبب عن ذلك قوله تعالى :
﴿أفلا يعلم﴾ أي : هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه ﴿إذا بعثر﴾ أي : انتثر بغاية السهولة وأخرج ﴿ما في القبور﴾ أي : من الموتى. قال أبو عبيدة : بعثرت المتاع : جعلت أسفله أعلاه. قال محمد بن كعب : ذلك حين يبعثون. فإن قيل : لِمَ قال :﴿ما في القبور﴾ ولم يقل من، ثم قال بعد ذلك :
﴿إن ربهم بهم﴾ أجيب : عن الأوّل بأنّ ما في الأرض غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأوّل ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
﴿وحُصِّل﴾ أي : أخرج وجمع بغاية السهولة ﴿ما في الصدور﴾ من خير وشر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال وهذا يدل على أن النيات يحاسب عليها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها. وتخصيص الصدر بذلك لأنه محله القلب.
﴿إن ربهم﴾ أي : المحسن إليهم بخلقهم وخلقهم وتربيتهم ﴿بهم يومئذ﴾ أي : إذا كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة ﴿لخبير﴾ أي : لمحيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم فكيف بظواهرها ومعنى علمه بهم يوم القيامة مجازاته لهم، وإلا فهو خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره فكيف ينبغي للعاقل أن يعلق آماله بالمال فضلاً عن أن يؤثره على الباقي. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري : عن رسول الله ﷺ "من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر حسنات من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً" حديث موضوع.
٦٧١
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٦٩