سورة النصر
مدنية
بالإجماع وتسمى سورة التوديع، وهي ثلاث آياتوستة عشر كلمة وتسعة وسبعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي له الأمر كله فهو العليم الحكيم ﴿الرحمن﴾ الذي أرسلك رحمة من الله العليّ العظيم ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل ودّه بفضله العميم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠١
وقوله تعالى :﴿إذا﴾ منصوب بسبح ﴿جاء نصر الله﴾، أي : الملك الأعظم الذي لا مثل له، ولا أمر لأحد معه بإظهاره إياك على أعدائك ومعنى جاء استقرّ وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها إلى اسم الذات.
وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة والباقون بالفتح، والإعلام به قبل كونه من أعلام النبوّة، روي أنها نزلت أيام التشريق بمنى في حجة الوداع ﴿والفتح﴾، أي : فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح، وقصته مشهورة في البغوي وغيره فلا نطيل بذكرها، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ومع رسول الله ﷺ عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطواف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوزان وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم قال : يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال :"اذهبوا فأنتم الطلقاء" فأعتقهم رسول الله ﷺ وكان الله تعالى قد أمكنه من رقابهم عنوة وكانوا له فيأ فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ثم بايعوه على الإسلام في دين الله تعالى في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه﴾ (آل عمران : ٨٥)
وقيل : المراد جنس نصر الله تعالى المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم. فإن قيل : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه ؟
أجيب : بأنّ النصر الإعانة والإظهار على العدوّ، ومنه نصر الله تعالى الأرض أغاثها
٧٠٢
قال الشاعر :
*إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي ** بلاد تميم وانصري آل عامر*
ويروى :
*إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي ** بلاد تميم وانصري أرض عامر*
والفتح فتح البلاد، وقال الرازي : الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً به، والنصر كالسبب فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه.
فإن قيل : إنّ رسول الله ﷺ كان دائماً منصوراً بالدلائل والمعجزات فما المعنى : بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة ؟
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠٢
أجيب : بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع. فإن قيل : النصر لا يكون إلا من الله تعالى، قال الله تعالى :﴿وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم﴾ (آل عمران : ١٢٦)
فما فائدة التقييد بنصر الله ؟
أجيب : بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى، كما يقال هذا صنعة زيد إذا كان مشهوراً بإحكام الصنعة والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا. فإن قيل : الذين أعانوا رسول الله ﷺ على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله ﷺ نصر الله فما السبب في ذلك ؟
أجيب : بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث وهو من الله تعالى، فإن قيل : فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّماً على فعل الله تعالى، وهذا بخلاف النصر لأنه تعالى قال :﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ (محمد : ٧)
فجعل نصره مقدّماً على نصره لنا ؟
أجيب : بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله تعالى، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية.
ولما عبر عن المعنى : بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى :
﴿ورأيت﴾، أي : ببصرك ((الناس))، أي : العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس كما دلت عليه لام الكمال، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً بالنسبة إليهم رعاعاً حال كونهم ﴿يدخلون﴾ شيئاً فشيئاً متجدّداً دخولهم مستمرّاً ﴿في دين الله﴾، أي : شرع من لم تزل كلمته هي العليا ﴿أفواجاً﴾، أي : جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً واثنين اثنين.
وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم، فقيل له في ذلك فقال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"دخل الناس في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً". وقال عكرمة ومقاتل : أراد
٧٠٣
بالناس أهل اليمن وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون فسر النبيّ ﷺ بذلك. قال أبو هريرة لما نزلت قال رسول الله ﷺ "الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان، والفقه يمان والحكمة يمانية" وقال :"أجد نفس ربكم من قبل اليمن" وفي هذا تأويلات :
أحدها : أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٠٢
الثاني : أنّ الله تعالى نفس الكرب عن نبيه ﷺ بأهل اليمن وهم الأنصار. وعن الحسن لما فتح رسول الله ﷺ مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا : أمّا إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال أمّة بعد أمّة. قال الضحاك : والأمة أربعون رجلاً.


الصفحة التالية
Icon