سورة الروم
ستون آية مكية (إلا آية ١٧ فمدنية، نزلت بعد الانشقاق)
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٨١
٨٣
وجه تعلق أول هذه السورة بما قبلها يتبين منه سبب النزول، فنقول لما قال الله تعالى في السورة المتقدمة ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ (العنكبوت : ٤٦) وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله :﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ (البقرة : ١٧١) وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله كما قال :﴿وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ﴾ (العنكبوت : ٤٦) وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله بل كثير منهم كانوا مؤمنين به كما قال :﴿فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِه ﴾ (العنكبوت : ٤٧) أي أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، فلما وقعت الكرة عليهم حين قاتلهم الفرس المجوس فرح المشركون بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق، بل الله تعالى قد يريد مزيد ثواب في المحب فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد للمعادي، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في افتتاح هذه السورة بحروف التهجي ؟
فنقول قد سبق منا أن كل سورة افتتحت بحروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كما في قوله تعالى :﴿ الر * ذَالِكَ الْكِتَابُ﴾ (البقرة : ١، ٢)، ﴿ المص * كِتَابٌ﴾ (الأعراف : ١)، ﴿طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ﴾ (طه : ١، ٢)، ﴿الام * تَنزِيلُ الْكِتَابِ﴾ ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (فصلت : ٢)، ﴿يس * وَالْقُرْءَانِ﴾ (يس : ١، ٢)، ﴿ا وَالْقُرْءَانِ﴾ (ص : ١) إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت وقد ذكرنا ما الحكمة فيهما في موضعهما فنقول ما يتعلق بهذه السور وهو أن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت وهذه ذكر في أولها ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع، ثم ترد عليه المعجزة وتقرع الأسماع.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٨٣
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿فِى أَدْنَى الارْضِ﴾ أي أرض العرب، لأن الألف واللام / للتعريف والمعهود عندهم أرضهم وقوله تعالى :﴿وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ أية فائدة في ذكره مع أن قوله :﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ بعد قوله :﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ لا يكون إلا من بعد الغلبة ؟
فنقول الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً، فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا، دل على أن ذلك بأمر الله، فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم، وإنما ذلك بأمر الله تعالى وقوله :﴿فِى أَدْنَى الارْضِ﴾ لبيان شدة ضعفهم، أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله.
المسألة الثالثة : قال تعالى :﴿فِى بِضْعِ سِنِينَ ﴾ قيل هي ما بين الثلاثة والعشرة، أبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم فنقول السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله تعالى وبينها لنبيه وما أذن له في إظهارها لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في كلامه ولما وردت الآية ذكر أبو بكر رضي الله عنه أن الروم ستغلب وأنكره أبي بن خلف وغيره/ وناحبوا أبا بكر أي خاطروه على عشرة قلائص إلى ثلاث سنين فقال عليه السلام لأبي بكر البضع ما بين الثلاثة والعشرة فزايده في الإبل وماده في الأجل فجعلا القلائص مائة والأجل سبعاً، وهذا يدل على علم النبي عليه السلام بوقت الغلبة.
(قوله تعالى :﴿لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُا وَيَوْمَا ِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ).