سورة الشورى
خمسون وثلاث آيات مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٨٦
٥٩٠
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح معلوم إلا أن في هذا الموضع سؤالان زائدان الأول : أن يقال إن هذه السور السبعة مصدرة بقوله ﴿حم ﴾ فما السبب في اختصاص هذه السورة بمزيد ﴿عاساق ﴾ ؟
الثاني : أنهم اجمعوا على أنه لا يفصل بين ﴿كاهيعاص ﴾ (مريم : ١( وههنا يفصل بين ﴿حم ﴾ وبين ﴿عاساق ﴾ فما السبب فيه ؟
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيف، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله، وقرأ ابن عباس وابن مسعود ﴿حم * عسق ﴾.
أما قوله تعالى :﴿كَذَالِكَ يُوحِى إِلَيْكَ﴾ فالكاف معناه الثل وذا للإشارة إلى شيء سبق ذكره، فيكون المعنى : مثل حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك وعند هذا حصل قولان :
الأول : نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال :"لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عشق" وهذا عندي بعيد.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٠
الثاني : أن يكون المعنى : مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة، والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى﴾ (الأعلى : ١) أو أولها في تقرير التوحيد، وأوسطها في تقرير النبوة، وآخرها في تقرير المعاد، ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال :﴿إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ (الأعلى : ١٨، ١٩) يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة، فكذلك ههنا يعني مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى كل من قبلك من الأنبياء، والمراد بهذه المماثلة الدعوة إلى هذه المطالب العالية والمباحث المقدسة الإلهية، قال صاحب "الكشاف" ولم يقل أوحي إليك، ولكن قال :﴿يُوحِى إِلَيْكَ﴾ على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادته، وقرأ ابن كثير ﴿كَذَالِكَ يُوحِى ﴾ بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله وهي إحدى الروايتين عن أبي عمرو وعن بعضهم ﴿نُوحِى ﴾ بالنون، وقرأ الباقون ﴿يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ﴾ بكسر الحاء، فإن قيل فعلى القراءة الأولى ما رافع اسم الله تعالى ؟
قلنا ما دل عليه بوحي، كأن قائلاً قال من الموحي ؟
فقيل الله ونظيره قراءة السلمي ﴿وَكَذَالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾ (الأنعام : ١٣٧) على البناء للمفعول ورفع شركاؤهم، فإن قيل فما رافعه فيمن قرأ ﴿نُوحِى ﴾ بالنون ؟
قلنا يرفع بالابتداء، والعزيز وما بعده أخبار، أو ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ صفتان والظرف خبره، ولما ذلك أن هذا الكتاب حصل بالوحي بين أن الموحي من هو فقال إنه هو العزيز الحكيم وقد بينا في أول سورة حم المؤمن أن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات عنياً عن جميع الحاجات فيحصل لنا من كونه عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات ومن كان كذلك كانت أفعاله وأقواله حكمة وصواباً/ وكانت مبرأة عن العيب والعبث، قال مصنف الكتاب قلت في قصيدة :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٠
الحمد لله دي الآلاء والنعم
والفضل والجود والإحسان والكرممنزّه الفعل عن عيب وعن عبث
مقدس الملك عن عزل وعن عدم والصفة الثالثة قوله ﴿لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ ﴾ وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما : كونه موصوفاً بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني : أنه لما بيّن بقوله ﴿لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ ﴾ أن كل ما في السموات وما في الأرض فهو ملكه وملكله، وجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في السموات وفي الأرض، وإلا لزم كونه ملكاً لنفسه، وإذا ثبت أنه ليس في شيء من لمسوات امتنع كونه أيضاً في العرش، لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجوداً فوق السموات كان في الحقيقة سماء، فوجب أن يكون كل ما كان حاصلاً في العرش ملكاً لله وملكاً له، وفجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في العرش، وإن قالوا إنه تعالى قال :﴿لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول : ىن لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى :﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَا هَا * وَالارْضِ وَمَا طَحَا هَا﴾ (الشمس : ٥، ٦) وقال :﴿لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾، (الكافرون : ٢، ٣) والثاني : أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى :﴿إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَن ِ عَبْدًا﴾ (مريم : ٩٣) وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلّت هذه الآية على أن كل من في المسوات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجوداً في السمواتوالأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في المسوات فوجب أن يكون عبد الله، ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجوداً في السموات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزّهاً عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي.


الصفحة التالية
Icon