سورة الذاريات
ستون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم /
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٢
١٦٢
أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها، وذلك لأنه تعالى لما بيّن الحشر بدلائله وقال :﴿ذَالِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ (ق : ٤٤) وقال :﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ﴾ (ق : ٤٥) أي تجبرهم وتلجئهم إلى الإيمان إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن عليهم لم يبق إلا اليمين فقال :﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ﴾ وأول هذه السورة وآخرها متناسبان حيث قال في أولها :﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ (الذاريات : ٥) وقال في آخرها :﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ﴾ (الذاريات : ٦٠) وفي تفسير الآيات مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا الحكمة وهي في القسم من المسائل الشريفة والمطالب العظيمة في سورة والصافات، ونيدها ههنا وفيها وجوه. الأول : أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبي صلى الله عليه وسلّم غالباً في إقامة الدليل وكانوا ينسبونه إلى المجادلة وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله، وإنه يغلبنا بقوة الجدل لا بصدق المقال، كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل ولم يبق له حجة، يقول : إنه غلبني لعلمه بطريق الجدل وعجزي عن ذلك، وهو في نفسه يعلم أن الحق بيدي فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين، فيقول : والله إن الأمر كما أقول، ولا أجادلك بالباطل، وذلك لأنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر، فإذا تم الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول إن ذلك تقرير بقوة علم الجدل فلا يبقى إلا السكوت أو التمسك بالإيمان وترك إقامة البرهان. الثاني : هو أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلافع، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّم أكثر من الأيمان بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتاً، وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذباً، وإلا لأصابه شؤم الإيمان ولناله / المكروه في بعض الأزمان. الثالث : وهو أن الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان مثاله قول القائل لمنعمه : وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك فيذكر النعم وهي سبب مفيد لدوام الشكر ويسلك مسلك القسم، كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة، فإن قيل فلم أخرجها مخرج الإيمان ؟
نقول لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف بعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين حتى أقبل القوم على سماعه فخرج لهم البرهان المبين، والتبيان المتين في صورة اليمين، وقد استوفينا الكلام في سورة الصافات.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٢
المسألة الثانية : في جميع السور التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي : الوحدانية والرسالة والحشر، وهي التي يتم بها الإيمان، ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي ﴿وَالصَّا فَّاتِ﴾ حيث قال فيها :﴿إِنَّ إِلَاهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾ (الصافات : ٤) وذلك لأنهم وإنن كانوا يقولون :﴿أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَاهًا وَاحِدًا ﴾ } (ص : ٥٠) على سبيل الإنكار، وكانوا يبالغون في الشرك، لكنهم في تضاعيف أقوالهم، وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد، وكانوا يقولون :(ص : ٥٠) على سبيل الإنكار، وكانوا يبالغون في الشرك، لكنهم في تضاعيف أقوالهم/ وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد، وكانوا يقولون :﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ (الزمر : ٣) وقال تعالى :﴿وَلَا ِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه ﴾ (الزمر : ٣٨) فلم يبالغوا في الحقيقة في إنكار المطلوب الأول، فاكتفى بالبرهان، ولم يكثر من الأيمان، وفي سورتين منها أقسم لإثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلّم، وكونه رسولاً في إحداهما بأمر واحد، وهو قوله تعالى :﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ (النجم : ١، ٢) وفي الثانية بأمرين وهو قوله تعالى :﴿وَالضُّحَى * وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ (الضحى : ١ ـ ٣) وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن، كما في قوله تعالى :﴿يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (يس : ١ ـ ٣) وقد ذكرنا الحكم فيه أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلّم القرآن، فأقسم به ليكون في القسم الإشارة واقعة إلى البرهان، وفي باقي السور كان المقسم عليه الحشر والجزاء وما يتعلق به لكون إنكارهم في ذلك خارجاً عن الحد، وعدم استيفاء ذلك في صورة القسم بالحروف.