سورة الجمعة
وهي إحدى عشرة آية مدنية
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٣٨
٥٣٩
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة :﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ (الصف : ١) بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل، فقال في أول هذه السورة بلفظ المستقبل ليدل على التسبيح في زماني الحاضر والمستقبل، وأما تعلق الأول بالآخر، فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا عالين على الكفار، وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق، ومنزه عما يخطر ببال الجهلة في الآفاق، وفي أول هذه السورة ما يدل على كونه مقدساً ومنزهاً عما لا يليق بحضرته العالية بالاتفاق، ثم إذا كان خلق السموات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعال فله الملك، كما قال تعالى :﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا لَهُ الْمُلْكُ﴾ (التغابن : ١) ولا ملك أعظم من هذا، وهو أنه خالقهم ومالكهم وكلهم في قبضة قدرته وتحت تصرفه، يسبحون له آناء الليل وأطراف النهار بل في سائر الأزمان، كما مر في أول تلك السورة، ولما كان الملك كله له فهو الملك على الإطلاق، ولما كان الكل بخلقه فهو المالك، والمالك والملك أشرف من المملوك، فيكون متصفاً بصفات يحصل منها الشرف، فلا مجال لما ينافيه من الصفات فيكون قدوساً، فلفظ ﴿الْمَلِكِ﴾ إشارة إلى إثبات ما يكون من الصفات العالية، ولفظ ﴿الْقُدُّوسِ﴾ هو إشارة إلى نفي مالا يكون منها، وعن الغزالي ﴿الْقُدُّوسِ﴾ المنزه عما يخطر ببال أوليائه، وقد مر تفسيره وكذلك ﴿الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ ثم الصفات المذكورة قرئت بالرفع على المدح، أي هو الملك القدوس، ولو قرئت بالنصب لكان وجهاً، كقول العرب : الحمد لله أهل الحمد، كذا ذكره في "الكشاف"، ثم في الآية مباحث :
الأول : قال تعالى :﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ ولم يقل : يسبح الله، فما الفائدة ؟
نقول : هذا من جملة ما يجري فيه اللفظان : كشكره وشكر له، ونصحه ونصح له.
الثاني :﴿الْقُدُّوسِ﴾ من الصفات السلبية، وقيل : معناه المبارك.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٣٩
الثالث : لفظ ﴿الْحَكِيمِ﴾ يطلق على الغير أيضاً، كما قيل في لقمان : إنه حكيم، نقول : الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء (في) مواضعها، والله تعالى حكيم بهذا المعنى.
ثم إنه تعالى بعدما فرغ من التوحيد والتنزيه شرع في النبوة فقال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٣٩
٥٤٠
الأمي منسوب إلى أمة العرب، لما أنهم أمة أميون لا كتاب لهم، ولا يقرأون كتاباً ولا يكتبون. وقال ابن عباس : يريد الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم، وقيل : الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه وقد مر بيانه، وقرىء الأمين بحذف ياء النسب، كما قال تعالى :﴿رَسُولا مِّنْهُمْ﴾ (المؤمنون : ٣٢) يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم نسبه من نسبهم، وهو من جنسهم، كما قال تعالى :﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ (التوبة : ١٢٨) قال أهل المعاني : وكان هو صلى الله عليه وسلّم أيضاً أمياً مثل الأمة التي بعث فيهم، وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، فكانت حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقة.
وقوله تعالى :﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِه ﴾ أي بيناته التي تبين رسالته وتظهر نبوته، ولا يبعد أن تكون الآيات هي الآيات التي تظهر منها الأحكام الشرعية، والتي يتميز بها الحق من الباطل ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهرهم من خبث الشرك، وخبث ما عداه من الأقوال والأفعال، وعند البعض ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾ أي يصلحهم، يعني يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون به أزكياء أتقياء ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ والكتاب : ما يتلى من الآيات، والحكمة : هي الفرائض، وقيل :﴿الْحِكْمَةَ﴾ السنة، لأنه كان يتلو عليهم آياته ويعلمهم سننه، وقيل :﴿الْكِتَابَ﴾ الآيات نصاً، والحكمة ما أودع فيها من المعاني، ولا يبعد أن يقال : الكتاب آيات القرآن والحكمة وجه التمسك بها، وقوله تعالى :﴿وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ ظاهر لأنهم كانوا عبدة الأصنام وكانوا في ضلال مبين وهو الشرك، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى التوحيد والإعراض عما كانوا فيه، وفي هذه الآية مباحث :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٤٠