سورة المنافقون
إحدى عشرة آية مدنية
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٤٦
٥٤٨
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أن تلك السورة مشتملة على ذكر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وذكر من كان يكذبه قلباً ولساناً بضرب المثل كما قال :﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَا ةَ﴾ (الجمعة : ٥) وهذه السورة على ذكر من كان يكذبه قلباً دون اللسان ويصدقه لساناً دون القلب، وأما الأول بالآخر، فذلك أن في آخر تلك السورة تنبيهاً لأهل الإيمان على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلّم ورعاية حقه بعد النداء لصلاة الجمعة وتقديم متابعته في الأداء على غيره وأن ترك التعظيم والمتابعة من شيم المنافقين، والمنافقون هم الكاذبون، كما قال في أول هذه السورة :﴿إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ يعني عبد الله بن أبي وأصحابه ﴿قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه ﴾ وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه ﴾ أي أنه أرسلك فهو يعلم أنك لرسوله ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ﴾ أضمروا غير ما أظهروا، وإنه يدل على أن حقيقة الإيمان بالقلب، وحقيقة كل كلام كذلك، فإن من أخبر عن شيء واعتقد بخلافه فهو كاذب، لما أن الكذب باعتبار المخالفة بين الوجود اللفظي والوجود الذهني، كما أن الجهل باعتبار المخالفة بين الوجود الذهني، والوجود الخارجي، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم : نشهد إنك لرسول الله، وسماهم الله كاذبين لما أن قولهم : يخالف اعتقادهم، وقال : قوم لم يكذبهم الله تعالى في قولهم :﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه ﴾ إنما كذبهم بغير هذا من الأكاذيب الصادرة عنهم في قوله تعالى :﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ﴾ (التوبة : ٧٤) الآية. و﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾ (التوبة : ٥٦) وجواب إذا ﴿قَالُوا نَشْهَدُ﴾ أي أنهم إذا أتوك شهدوا لك بالرسالة، فهم كاذبون في تلك الشهادة، لما مر أن قولهم يخالف اعتقادهم، وفي الآية مباحث :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٤٨
البحث الأول : أنهم قالوا : نشهد إنك لرسول الله، فلو قالوا : نعلم إنك لرسول الله، أفاد مثل ما أفاد هذا، أم لا ؟
نقول : ما أفاد، لأن قولهم : نشهد إنك لرسول الله، صريح في الشهادة على إثبات الرسالة، وقولهم : نعلم ليس بصريح في إثبات العلم، لما أن علمهم في الغيب عند غيرهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٤٨
٥٤٩
قوله :﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ أي ستراً ليستتروا به عما خافوا على أنفسهم من القتل. قال في "الكشاف" :﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ يجوز أن يراد أن قولهم :﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه ﴾ يمين من أيمانهم الكاذبة، لأن الشهادة تجري مجرى الحلف في التأكيد، يقول الرجل : أشهد وأشهد بالله، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى : وبه استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين، ويجوز أن يكون وصفاً للمنافقين في استخفافهم بالإيمان، فإن قيل : لم قالوا نشهد، ولم يقولوا : نشهد بالله كما قلتم ؟
أجاب بعضهم عن هذا بأنه في معنى الحلف من المؤمن وهو في المتعارف إنما يكون بالله، فلذلك أخبر بقوله : نشهد عن قوله بالله.
وقوله تعالى :﴿فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّه ﴾ أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله، وقيل : صدوا، أي صرفوا ومنعوا الضعفة عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ﴿سَآءَ﴾ أي بئس ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا مشاكلة للمسلمين.
وقوله تعالى :﴿ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ ذلك إشارة إلى قوله :﴿سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قال مقاتل : ذلك الكذب بأنهم آمنوا في الظاهر، ثم كفروا في السر، وفيه تأكيد لقوله :﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ وقوله :﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ لا يتدبرون، ولا يستدلون بالدلائل الظاهرة. قال ابن عباس : ختم على قلوبهم، وقال مقاتل : طبع على قلوبهم بالكفر فهم لا يفقهون القرآن، وصدق محمد صلى الله عليه وسلّم، وقيل : إنهم كانوا يظنون أنهم على الحق، فأخبر تعالى أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم، ثم في الآية مباحث :
البحث الأول : أنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل، ولم يقل : إنهم ساء ما كانوا يعملون، فلم قلنا هنا ؟
نقول : إن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جنة، أي سترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون كما مر.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٤٩


الصفحة التالية
Icon