سورة الملك
وهي ثلاثون آية مكية
سورة الملك وتسمى المنجية : لأنها تنجي قارئها من عذاب القبر، وعن ابن عباس أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها في القبر، وهي ثلاثون آية مكية.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨١
٥٨٢
أما قوله :﴿تَبَارَكَ﴾ فقد فسرناه في أول سورة الفرقان، وأما قوله :﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ فاعلم أن هذه اللفظة إنما تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً، كما يقال : بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد ولا مدخل للجارحة في ذلك. قال صاحب "الكشاف" :﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ على كل موجود، ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ﴾ ما لم يوجد من الممكنات ﴿قَدِيرٌ﴾، وقوله :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية احتج بها من زعم أن المعدوم شيء، فقال قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ يقتضي كون مقدوره شيئاً، فذلك الشيء الذي هو مقدور الله تعالى، إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، لا جائز أن يكون موجوداً، لأنه لو كان قادراً على الموجود، لكان إما أن يكون قادراً على إيجاده وهو محال، لأن إيجاد الموجود محال، وإما أن يكون قادراً على إعدامه وهو محال، لاستحالة وقوع الإعدام بالفاعل، وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة فلا بد لها من تأثير، والعدم نفي محض، فيستحيل جعل العدم أثر القدرة، فيستحيل وقوع الإعدام بالفاعل فثبت أن الشيء الذي هو مقدور الله ليس بموجود، فوجب أن يكون معدوماً، فلزم أن يكون ذلك المعدوم شيئاً، واحتج أصحابنا النافون لكون المعدوم شيئاً بهذه الآية فقالوا : لا شك أن الجوهر من حيث إنه جوهر شيء والسواد من حيث هو سواد شيء، والله قادر على كل شيء. فبمقتضى هذه الآية يلزم أن يكون قادراً على الجوهر من حيث إنه جوهر، وعلى السواد من حيث هو سواد، وإذا كان كذلك كان كون الجوهر جوهراً، والسواد سواداً واقعاً بالفاعل، والفاعل المختار لا بد وأن يكون متقدماً على فعله، فإذاً وجود الله وذاته متقدم على كون الجوهر جوهراً، أو السواد سواداً، فيلزم أن لا يكون المعدوم شيئاً وهو المطلوب، ثم أجابوا عن شبهة / الخصم بأنا لا نسلم أن الإعدام لا يقع بالفاعل، ولئن سلمنا ذلك، لكن لم يجوز أن يقال المقدور الذي هو معدوم سمي شيئاً، لأجل أنه سيصير شيئاً، وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه، لقيام سائر الدلائل الدالة على أن المعدوم ليس بشيء.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٢
المسألة الثانية : زعم القاضي أبو بكر في أحد قوليه أن إعدام الأجسام إنما يقع بالفاعل، وهذا اختيار أبي الحسن الخياط من المعتزلة، ومحمود الخوارزمي، وزعم الجمهور منا ومن المعتزلة أنه يستحيل وقوع الإعدام بالفاعل، احتج القاضي بأن الموجودات أشياء، والله على كل شيء قدير، فهو إذاً قادر على الموجودات، فإما أن يكون قادراً على إيجادها وهو محال لأن إيجاد الموجود محال، أو على إعدامها، وذلك يقتضي إمكان وقوع الإعدام بالفاعل.
المسألة الثالثة : زعم الكعبي أنه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد، وزعم أبو علي وأبو هاشم أنه تعالى غير قادر على مقدور العبد، وقال أصحابنا : إنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد وعلى غير مقدوره، واحتجوا عليه بأن عين مقدور العبد ومثل مقدوره شيء، والله على كل شيء قدير، فثبت بهذا صحة وجود مقدور واحد بين قادرين.
المسألة الرابعة : زعم أصحابنا أنه لا مؤثر إلا قدرة الله تعالى، وأبطلوا القول بالطبائع على ما يقوله الفلاسفة، وأبطلوا القول بالمتولدات على ما يقوله المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه، واحتجوا على الكل بأن الآية دالة على أنه تعالى قادر على كل شيء، فلو وقع شيء من الممكنات لا بقدرة الله بل بشيء آخر، لكان ذلك الآخر قد منع قدرة الله عن التأثير فيما كان مقدوراً له وذلك محال/ لأن ما سوى الله ممكن محدث، فيكون أضعف قوة من قدرة الله، والأضعف لا يمكن أن يدفع الأقوى.
المسألة الخامسة : هذه الآية دالة على أن الإله تعالى واحد، لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً، فإما أن يقدر على إيجاد شيء أو لا يقدر، فإن لم يقدر ألبتة على إيجاد شيء أصلاً لم يكن إلهاً، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً، فيلزم كونه مقدوراً للإله الأول لقوله :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيلزم وقوع مخلوق بين خالقين وهو محال، لأنه إذا كان واحد منهما مستقلاً بالإيجاد، يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما، وغنياً عنهما، وذلك محال.
المسألة السادسة : احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء فقال : لو كان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ لكن كونه قادراً على نفسه محال، فيمتنع كونه شيئاً، وقال أصحابنا لما دل قوله :﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةًا قُلِ اللَّه شَهِيدُ ﴾ (الأنعام : ١٩) على أنه تعالى شيء وجب تخصيص هذا العموم، فإذاً هذه الآية قد دلت على أن العام المخصوص وارد في كتاب الله تعالى، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز بل واقع.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٢
المسألة السابعة : زعم جمهور المعتزلة أن الله تعالى قادر على خلق الكذب والجهل / والعبث والظلم، وزعم النظام أنه غير قادر عليه، واحتج الجمهور بأن الجهل والكذب أشياء ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فوجب كونه تعالى قادراً عليها.


الصفحة التالية
Icon