سورة نوح عليه السلام
عشرون وثمان آيات مكية
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٠
٦٥٠
﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ﴾ في قوله :﴿ءَانٍ﴾ وجهان أحدهما : أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل، والمعنى أرسلناه بأن قلنا له : أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإندار الثاني قال الزجاج : يجوز أن تكون مفسرة والتقدير : إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أي أنذر قومك وقرأ ابن مسعود، ﴿أَنذِرْ﴾ بغير أن على إرادة القول.
ثم قال :﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قال مقاتل يعني الغرق بالطوفان.
واعلم أن الله تعالى لما أمره بذلك امتثل ذلك الأمر.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥٠
٦٥١
﴿أَنِ اعْبُدُوا ﴾ هو نظير ﴿أَنْ أَنذِرْ﴾ (نوح : ١) في الوجهين، ثم إنه أمر القوم بثلاثة أشياء بعبادة الله وتقواه وطاعة نفسه، فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح، والأمر بتقواه يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات، وقوله :﴿وَأَطِيعُونِ﴾ يتناول أمرهم بطاعته وجميع المأمورات والمنهيات، وهذا وإن كان داخلاً في الأمر بعبادة الله وتقواه، إلا أنه خصه بالذكر تأكيداً في ذلك التكليف ومبالغة في تقريره، ثم إنه تعالى لما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها بشيئين أحدهما : أن يزيل مضار الآخرة عنهم، وهو قوله :﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾. الثاني : يزيل عنهم مضار الدنيا بقدر الإمكان، وذلك بأن يؤخر أجلهم إلى أقصى الإمكان. وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما فائدة ﴿مِّنَ﴾ في قوله :﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ ؟
والجواب من وجوه أحدها : أنها صلة زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم والثاني : أن غفران الذنب هو أن لا يؤاخذ به، فلو قال : يغفر لكم ذنوبكم، لكان معناه أن لا يؤاخذكم بمجموع ذنوبكم، وعدم المؤاخذة بالمجموع لا يوجب عدم المؤاخذة بكل واحد من آحاد المجموع، فله أن يقول : لا أطالبك بمجموع ذنوبك، ولكني أطالبك بهذا الذنب الواحد فقط، أما لما قال :﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ كان تقديره يغفر كل ما كان من ذنوبكم، وهذا يقتضي عدم المؤاخذة على مجموع الذنوب وعدم المؤاخذة أيضاً على كل فرد من أفراد المجموع الثالث : أن قوله :﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حتى لأن من آمن فإنه يصير ما تقدم من ذنوبه على إيمانه مغفوراً، أما ما تأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفوراً، فثبت أنه لا بد ههنا من حرف التبعيض.
السؤال الثاني : كيف قال :﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ﴾ مع إخباره بامتناع تأخير الأجل، وهل هذا إلا تناقض ؟
الجواب : قضى الله مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة، فقيل لهم : آمنوا ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي إلى وقت سماه الله وجعله غاية الطول في العمر، وهو تمام الألف، ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول، لا بد من الموت.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥١
السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله ﴿لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الجواب : الغرض الزجر عن حب الدنيا، وعن التهالك عليها والإعراض عن الدين بسبب حبها، يعني أن غلوهم في حب الدنيا وطلب لذاتها بلغ إلى حيث يدل على أنهم شاكون في الموت. [بم قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥١
٦٥١
اعلم أن هذا من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره، وذلك لأنا نرى إنسانين يسمعان دعوة الرسول في مجلس واحد بلفظ واحد، فيصير ذلك الكلام في حق أحدهما سبباً لحصول الهداية، والميل والرغبة، وفي حق الثاني سبباً لمزيد العتو والتكبر، ونهاية النفرة، وليس لأحد أن يقول : إن تلك النفرة والرغبة حصلتا باختيار المكلف، فإن هذا مكابرة في المحسوس، فإن صاحب النفرة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك النفرة وصاحب الرغبة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك الرغبة، ومتى حصلت تلك النفرة وجب أن يحصل عقيبه التمرد والإعراض، وإن حصلت الرغبة وجب أن يحصل عقيبه الانقياد والطاعة، فعلمنا أن إفضاء سماع تلك الدعوة في حق أحدهما إلى الرغبة المستلزمة لحصول الطاعة والانقياد وفي حق الثاني إلى النفرة المستلزمة لحصول التمرد والعصيان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، فإن قيل : هب أن حصول النفرة والرغبة ليس باختياره، لكن حصول / العصيان عند النفرة يكون باختياره، فإن العبد متمكن مع تلك النفرة أن ينقاد ويطيع، قلنا : إنه لو حصلت النفرة غير معارضة بوجه من وجوه الرغبة بل خالصة عن جميع شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل، وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل ألبتة، فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع، فبأن يصير الفعل ممتنعاً أولى، فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٥١
٦٥٢