سورة الشرح
ثمان آيات مكية
يروى عن طاووس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى :﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾ كالعطف على قوله :﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا﴾ وليس كذلك لأن الأول : كان نزوله حال اغتمام الرسول صلى الله عليه وسلّم من إيذاء الكفار فكانت حال محنة وضيق صدر والثاني : يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب، فأنى يجتمعان.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٠٨
٢٠٩
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك، وفي شرح الصدر قولان :
الأول : ما روى أن جبريل عليه السلام أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ثم ملأه علماً وإيماناً ووضعه في صدره.
واعلم أن القاضي طعن في هذه الرواية من وجوه : أحدها : أن الرواية أن هذه الواقعة إنما وقعت في حال صغره عليه السلام وذلك من المعجزات، فلا يجوز أن تتقدم نبوته وثانيها : أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام، والمعاصي ليست بأجسام فلا يكون للغسل فيها أثر ثالثها : أنه لا يصح أن يملأ القلب علماً، بل الله تعالى يخلق فيه العلوم والجواب : عن الأول : أن تقويم المعجز على زمان البعثة جائز عندنا، وذلك هو المسمى بالإرهاص، ومثله في حق الرسول عليه السلام كثير.
وأما الثاني والثالث : فلا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول عليه السلام علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي، ويحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لكون صاحبه مواظباً على الطاعات محترزاً عن السيئات، فكان ذلك كالعلامة للملائكة على كون صاحبه معصوماً، وأيضاً فلأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
والقول الثاني : أن المراد من شرح الصدر ما يرجع إلى المعرفة والطاعة، ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها : أنه عليه السلام لما بعث إلى الجن والإنس فكان يضيق صدره عن منازعة الجن والإنس والبراءة من كل عابد ومعبود سوى الله، فآتاه الله من آياته ما اتسع لكل ما حمله وصغره عنده كل شيء احتمله من المشاق، وذلك بأن أخرج عن قلبه جميع الهموم وما ترك فيه إلا هذا الهم الواحد، فما كان يخطر بباله هم النفقة والعيال، ولا يبالي بما يتوجه إليه من إيذائهم، حتى صاروا في عينه دون الذباب لم يجبن خوفاً من وعيدهم، ولم يمل إلى مالهم، وبالجملة فشرح الصدر عبارة عن علمه بحقارة الدنيا وكما الآخرة، ونظيره قوله :﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلاسْلَامِا وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ وروى أنهم قالوا : يا رسول الله أينشرح الصدر ؟
قال : نعم، قالوا : وما علامة ذلك ؟
قال :"التجافي عن الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله" وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والاستعداد للموت وثانيها : أنه انفتح صدره حتى أنه كان يتسع لجميع المهمات لا يقلق ولا يضجر ولا يتغير، بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف به، والشرح التوسعة، ومعناه الإراحة من الهموم، والعرب تسمى الغم والهم ضيق صدر كقوله :﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾ وههنا سؤالات :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٠٩
الأول : لم ذكر الصدر ولم يذكر القلب ؟
والجواب : لأن محل الوسوسة هو الصدر على ما قال :﴿يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ﴾ فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح، فلا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب، وقال محمد بن علي الترمذي : القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان، فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكاً أغار فيه ونزل جنده فيه، وبث فيه من الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حيئنذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، وإذا طرد العدو في الابتداء منع وحصل الأمن ويزول الضيق وينشرح الصدر ويتيسر له القيام بأداء العبودية.
السؤال الثاني : لم قال :﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ولم يقل ألم نشرح صدرك ؟
والجواب : من وجهين أحدهما : كأنه تعالى يقول لام بلام، فأنت إنما تفعل جميع الطاعات لأجلي كما قال :﴿فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواةَ لِذِكْرِى ﴾ فأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك وثانيها : أن فيها تنبيهاً على أن منافع الرسالة عائدة إليه عليه السلام، كأنه تعالى قال : إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي.