سورة العلق
تسع عشرة آية مكية
زعم المفسرون : أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن وقال آخرون : الفاتحة أول ما نزل ثم سورة العلق.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢١٩
٢١٩
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ اعلم أن في الباء من قوله :﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ قولين : أحدهما : قال أبو عبيدة : الباء زائدة، والمعنى : اقرأ اسم ربك، كما قال الأخطل :
هن الحرائر لا ربات أخمرة
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ومعنى اقرأ اسم ربك، أي أذكر اسمه، وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها : أنه لو كان معناه اذكر اسم ربك ما حسن منه أن يقول : ما أنا بقارىء، أي لا أذكر اسم ربي وثانيها : أن هذا الأمر لا يليق بالرسول، لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله، فكيف يأمره بأن يشتغل بما كان مشغولاً به أبداً وثالثها : أن فيه تضييع الباء من غير فائدة.
القول الثاني : أن المراد من قوله :﴿اقْرَأْ﴾ أي اقرأ القرآن، إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه قال تعالى :﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَه ﴾ وقال :﴿وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾ وقوله :﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون محل باسم ربك النصب على الحال فيكون التقدير : اقرأ القرآن مفتتحاً باسم ربك أي قل : باسم الله ثم اقرأ، وفي هذا دلالة على أنه يجب قراءة التسمية في ابتداء كل سورة كما أنزل الله تعالى وأمر به، وفي هذه الآية رد على من لا يرى ذلك واجباً ولا يبتدىء بها وثانيها : أن يكون المعنى اقرأ القرآن مستعيناً باسم ربك كأنه يجعل الاسم آلة فيما يحاوله من أمر الدين والدنيا، نظيره كتبت بالقلم، وتحقيقه أنه لما قال له :﴿اقْرَأْ﴾ فقال له : لست بقارىء، فقال :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك وثالثها : أن قوله :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ أي اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله كما تقول : بنيت هذه الدار باسم الأمير وصنعت هذا الكتاب باسم الوزير ولأجله، فإن العبادة / إذا صارت لله تعالى، فكيف يجترىء الشيطان أن يتصرف فيما هو لله تعالى ؟
فإن قيل : كيف يستمر هذا التأويل في قولك : قبل الأكل بسم الله، وكذا قبل كل فعل مباح ؟
قلنا : فيه وجهان أحدهما : أن ذلك إضافة مجازبة كما تضيف مجازية كما تضيف ضيعتك إلى بعض الكبار لتدفع بذلك ظلم الظلمة، كذا تضيف فعلك إلى الله ليقطع الشيطان طمعه عن مشاركتك، فقد روى أن من لم يذكر اسم الله شاركه الشيطان في ذلك الطعام والثاني : أنه ربما استعان بذلك المباح على التقوى على طاعة الله فيصير المباح طاعة فيصح ذلك التأويل فيه.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢١٩
أما قوله :﴿رَبِّكَ﴾ ففيه سؤالان :
أحدها : وهو أن الرب من صفات الفعل، والله من أسماء الذات وأسماء الذات أشرف من أسماء الفعل، ولأنا قد دللنا بالوجوه الكثيرة على أن اسم الله أشرف من اسم الرب، ثم إنه تعالى قال ههنا :﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ولم يقل : اقرأ باسم الله كما قال في التسمية المعروفة :﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ﴾ وجوابه : أنه أمر بالعبادة، وبصفات الذات، وهو لا يستوجب شيئاً، وإنما يستوجب العبادة بصفات الفعل، فكان ذلك أبلغ في الحث على الطاعة، ولأن هذه السورة كانت من أوائل ما نزل على ما كان الرسول عليه السلام قد فزع فاستماله ليزول الفزع، فقال : هو الذي رباك فكيف يفزعك ؟
فأفاد هذا الحرف معنيين أحدهما : ربيتك فلزمك القضاء فلا تتكاسل والثاني : أن الشروع ملزم للاتمام، وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك، أي حين كنت علقاً لم أدع تربيتك فبعد أن صرت خلقاً نفيساً موحداً عارفاً بي كيف أضيعك.
السؤال الثاني : ما الحكمة في أنه أضاف ذاته إليه/ فقال :﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ؟
الجواب : تارة يضيف ذاته إليه بالربوبية كما ههنا، وتارة يضيفه إلى نفسه بالعبودية، أسرى بعبده، نظيره قوله عليه السلام :"علي مني وأنا منه" كأنه تعالى يقول : هو لي وأنا له، يقرره قوله تعالى :﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ أو نقول : إضافة ذاته إلى عبده أحسن من إضافة العبد إليه، إذ قد علم في الشاهد أن من له إبنان ينفعه أكبرهما دون الأصغر، يقول : هو ابني فحسب لما أنه ينال منه المنفعة، فيقول الرب تعالى : المنفعة تصل مني إليك، ولم تصل منك إلى خدمة ولا طاعة إلى الآن، فأقول : أنا لك ولا أقول أنت لي، ثم إذا أتيت بما طلبته منك من طاعة أو توبة أضفتك إلى نفسي فقلت : أنزل على عبده ﴿قُلْ يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ﴾.
السؤال الثالث : لم ذكر عقيب قوله :﴿رَبِّكَ﴾ قوله :﴿الَّذِى خَلَقَ﴾ ؟
الجواب : كأن العبد يقول : ما الدليل على أنك ربي ؟
فيقول : لأنك كنت بذاتك وصفاتك معدوماً. ثم صرت موجوداً فلا بد لك في ذاتك وصفاتك من خالق، وهذا الخلق والإيجاد تربية فدل ذلك على أني ربك وأنت مربوبي.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢١٩
٢٢٠
أما قوله تعالى :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الانسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ ففيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon