سورة القدر
خمس آيات مكية
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٣٢
٢٣٥
﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمع المفسرون على أن المراد : إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر، لأن هذا التركيب يدل على عظم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها : أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر. شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح، ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره، وقوله :﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ لم يذكر الموت لشهرته، فكذا ههنا والثالث : تعظيم الوقت الذي أنزل فيه.
المسألة الثانية : أنه تعالى قال في بعض المواضع :﴿إِنِّى ﴾ كقوله :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً ﴾ وفي بعض المواضع ﴿إِنَّآ﴾ كقوله :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾. ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾، ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾، ﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾. وأعلم أن قوله :﴿إِنَّآ﴾ تارة يراد به التعظيم، وحمله على الجمع محال لأن الدلائل دلت على وحدة الصانع، ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية، لأنه لو كان كل واحد منهم قادراً على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم، وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصاً، وإن لم يكن كل واحد منهم قادراً على الكمال كان ناقصاً، فعلمنا أن قوله :﴿إِنَّآ﴾ محمول على التعظيم لا على الجمع.
المسألة الثالثة : إن قيل : ما معنى إنه أنزل في ليلة القدر، مع العلم بأنه أنزل نجوماً ؟
قلنا فيه وجوه : أحدهما : قال الشعبي : ابتداء بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان والثاني : قال ابن عباس : أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر، ثم إلى الأرض نجوماً، كما قال :﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ وقد ذكرنا هذه المسألة في قوله :﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ﴾ لا يقال : فعلى هذا القول لم لم يقل : أنزلناه إلى السماء ؟
لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض، لأنا نقول : إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض، لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه، وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد / يقال : جاء فلان، أو يقال الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه، فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٣٥
وأبرح ما يكون الشوق يوماً
إذا دنت الديار من الديار وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة، فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة، كما قال :﴿وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا﴾ فإنزاله القرآن هناك كإنزاله ههنا والوجه الثالث في الجواب : أن التقدير أنزلنا هذا الذكر :﴿فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ أي في فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها.
المسألة الرابعة : القدر مصدر قدرت أقدر قدراً، والمراد به ما يمضيه الله من الأمور، قال :﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ والقدر، والقدر واحد إلا أنه بالتسكين مصدر وبالفتح اسم، قال الواحدي : القدر في اللغة بمعنى التقدير، وهو جعل لشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان، واختلفوا في أنه لم سميت هذه الليلة ليلة القدر، على وجوه أحدهما : أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، قال عطاء، عن ابن عباس : أن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية، ونظيره قوله تعالى :﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ واعلم أن تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل، بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ، وهذا القول اختيار عامة العلماء الثاني : نقل عن الزهري أنه قال :﴿لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ ليلة العظمة والشرف من قولهم لفلان قدر عند فلان، أي منزلة وشرف، ويدل عليه قوله :﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ ثم هذا يحتمل وجهين أحدهما : أن يرجع ذلك إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف وثانيهما : إلى الفعل أي الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف زائد، وعن أبي بكر الوراق سميت :﴿لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على أمة لها قدر، ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب.
والقول الثالث : ليلة القدر، أي الضيق فإن الأرض تضيق عن الملائكة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٣٥


الصفحة التالية
Icon