الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى ( شَهِيدٍ ) فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا بِعَيْنِهَا، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَنْوَاعِهَا، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ :﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ قِيلَ : مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى :﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ﴾ قَضَى.
وَمِنْهَا شَهِدَ، أَيْ أَقَرَّ، كَقَوْلِهِ :﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ﴾.
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى حَكَمَ ؛ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾.
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى حَلَفَ، كَمَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ.
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ.
كَمَا قَالَ :﴿ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ﴾ أَيْ عِلْمَ اللَّهِ.
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى وَصَّى، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾.
انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ نَقَصَ مَوَارِدُ مِنْهُ، مِنْهَا قَوْلُهُ :﴿ وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ : وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " شَهِدَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا يُعْلَمُ بِدَرْكِ الْحَوَاسِّ، كَمَا أَنَّ " غَيَّبَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا لَمْ يُدْرَكْ بِهَا وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الْبَارِي تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَمَعْنَى شَهِدْت : أَدْرَكْت بِحَوَاسِّي، أَيْ عَلِمْت بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ طُرُقًا لِعِلْمِي، ثُمَّ يُنْقَلُ مَجَازًا إلَى مُتَعَلَّقَاتِهِ، فَمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ : عَلِمَ مُشَاهَدَةً، وَأَخْبَرَ عَمَّا عَلِمَ بِكَلَامِهِ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمُحَدِّثِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ :﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ أَيْ أَحْضِرُوا مَنْ يَعْلَمُ لَكُمْ مَا يُشَاهِدُ مِنْ عَقْدِكُمْ.
وَقَوْلُهُ :﴿ شَهِدَ اللَّهُ ﴾ أَيْ عَلِمَ وَأَخْبَرَ عَنْ عِلْمِهِ، وَبَيَّنَ مَا عَلِمَ لَنَا حَتَّى نَتَبَيَّنَهُ.
فَأَخْبَرَ عَنْ حُكْمِهِ، فَيَرْجِعُ إلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا