وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة ففي آخر آل عمران: (واتقوا اللَهَ لعلَكُم تُفلِحون) وفي آخر الطواسين: (كل شيء هالك إِلا وجهه أَلاله الحكم وإِليه تُرجَعون) وفي آخر ذوات (الر): (وانتَظِر إِنَهُم مُنتَظرون) وفي آخر الحواميم (كأَنَهُم يومَ يرونَ ما يوعدونَ لم يلبثوا إِلا ساعة من نهار بلاغ) ثم ظهر لي وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورة إبراهيم، فإنه تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة: (وبرزوا للهِ الواحدِ القَهّار وتَرى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأَصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) قال هنا: (رُبما يود الذينَ كفروا لو كانوا مسلمين) فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار ورأوا عصاة المؤمنين الموحدين قد أخرجوا منها، تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين وذلك وجه حسن في الربط، مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب، وافتتاح هذه به، وذلك من تشابه الأطراف
سورة النحل
أقول: وجه وضعها بعد سورة الحجر: أن آخرها شديد الالتئام بأول هذه، فإن قوله في آخر تلك: (واعبُد ربَكَ حتى يأَتيكَ اليقين) الذي هو مفسر بالموت، ظاهر المناسبة لقوله هنا: (أَتى أَمرُ اللَه) وانظر كيف جاء في المقدمة بيأتيك اليقين، وفي المتأخرة بلفظ الماضي، لأن المستقبل سابق على الماضي، كما تقرر في المعقول والعربية وظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم، وإنما تأخرت عنها لمناسبة الحجر، في كونها من ذوات (الر) وذلك: أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت، ومن هو ميت وغيره، وذلك أيضاً في هذه بقوله: (الذينَ تتوفاهُم الملائكة ظالمي أَنفُسَهُم) فذكر الفتنة، وما يحصل عندها من الثبات والإضلال، وذكر هنا ما يحصل عقب ذلك من النعيم والعذاب ووقع في سورة إبراهيم: (وقَد مَكروا مَكرَهُم وعِندَ اللَهِ مكرُهُم وإِن كانَ مكرُهُم لتزول منه الجبال) وقيل: إنها في الجبار الذي أراد أن يصعد السماء بالنسور ووقع هنا أيضاً في قوله: (وقد مكرَ الذينَ من قبلهم) ووقع في سورة إبراهيم ذكر النعم، وقال عقبها: (وإِن تعُدوا نعمة اللَهِ لا تحصوها) ووقع هنا ذكر معقباً بمثل ذلك
سورة بني اسرائيل
اعلم أن هذه السورة والأربع بعدها من قديم ما أنزل اخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء (من العتاق الأول، وهن من تلادى) وهذا وجه في ترتيبها، وهو اشتراكها في قدم النزول، وكونها مكيات، وكونها مشتملة على القصص وقد ظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل: أنه سبحانه لما قال في آخر النحل: (إِنما جعلَ السبت على الذين اختلفوا فيه) فسر في هذه شريعة أهل السبت وشأنهم، فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة، كما أخرج ابن جرير عن إبن عباس أنه قال: (التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل) وذكر عصيانهم وفسادهم، وتخريب مسجدهم، ثم ذكر استفزازهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وإرادتهم إخراجه من المدينة ثم ذكر سؤالهم إياه عن الروح، ثم ختم السورة بآيات موسى التسع، وخطابه مع فرعون: وأخبر أن استفزازهم للنبي ﷺ ليخرجوه من المدينة هو وأصحابه كنظير ما وقع لهم مع فرعون لما استفزهم، ووقع ذلك أيضاً ولما كانت هذه السورة مصدرة بقصة تخريب المسجد الأقصى اسرى بالمصطفى إليه، تشريفاً له بحلول ركابه الشريف فلله الحمد على ما ألهم
سورة الكهف
قال بعضهم: مناسبة وضعها بعد سورة الإسراء: افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد، نحو: (فسبِح بحمدِ ربك) وسبحان الله وبحمده قلت: مع اختتام ما قبلها بالتحميد أيضاً، وذلك من وجوه المناسبة بتشابه الأطراف ثم ظهر لي وجه آخر أحسن في الاتصال وذلك: أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي ﷺ عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر سورة بني إسرائيل، فناسب اتصالها بالسورة التي اشتملت على جواب السؤالين الآخرين فإن قلت: هلا جمعت الثلاثة في سورة واحدة؟ قلت: لما لم يقع الجواب عن الأول بالبيان، ناسب فصله في سورة


الصفحة التالية
Icon