كتاب فهم القرآن ومعانيه
فهم القرآن
لأبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي
في تنزيه الله
عونك اللهم
الحمد لله الذي ما سبقه شيء فيكون محدثا مخلوقا ولا بقي إلى أجل فيكون فانيا موروثا
الأول القديم الدايم الكريم فات المقدار وعلا عن توهم الأذهان
تاهت الألباب عن تكييفه وتحيرت العقول عن إدراكه تفرد بعلم الغيوب فعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون
لكن أراد أن ينشر رحمته ويمن بفضله ويستخلص من يشاء من بريته فابتدأ آثار القدرة وأحكم الصنع وأتقن التدبير وابتدأ بالطول وبعد بالمن فعم به عباده عدلا وأوسعهم فضلا فله الحمد والثناء شكرا
لم يخلق خلقه عبثا ولا تركهم سدى ولكن أراد أن يتعرف إلى عباده بآياته البينة ودلايله الواضحة ليؤدوا واجب حقه ويجتنبوا مساخطه لغير حاجة إلى طاعتهم ولكن ليستحق الثواب من أناب وأجاب ويستحق العقاب من جحد وارتاب
فاستخص آدم وذريته فأخذ منهم الميثاق بما فطرهم عليه من العقول الرضية والألباب والفهم ليدبروا بها شواهد التدبير وأحكام التقدير فألزمهم بذلك حجة من عقولهم بما شاهدوا من إنشائه وإتقان صنعه في أنفسهم وفي جميع خلقه ثم أكد الحجة عليهم بإرسال الرسل إليهم فنبههم على النظر بما
شاهدوا من الآيات الظاهرة والدلايل البينة لم يظهر لهم سبحانه بنفسه فيبدي لهم عظمته ويخاطبهم دون رسله
ولم تكن الرسل لتعرف صفاته ولا ما يحب ويكره فيعلموا غيبه كما علم غيوبهم فيكونوا أربابا مثله جل وعلا عن ذلك وتعالى ولم يكونوا ليعرفوا صفاته ولا ما في نفسه مما يحب ويكره وما يريد أن يكرم به من أطاعه ولا ما يهين به من عصاه أبدا
ثم تكلم بذلك تكليما بذاته فأكد عليهم الحجة بكلامه واختار إرسال الأنبياء من عباده فأرسلهم بكلامه ووصف لهم صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى وما يرضى به من المقال والفعال وما يسخطه من الأعمال وما أعد لمن أطاعه من الثواب الجزيل والعيش السليم والنعيم المقيم وما أعد لأعدائه من أليم العذاب وشديد العقاب في اليوم الذي يعرض فيه عباده ويحاسب خلقه بأهواله وزلازله فأرسل بذلك الأمناء من رسله فقطع بهم العذر وأزاح بهم العلل وقال جل من قائل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال


الصفحة التالية
Icon