اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد ﷺ أراد أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد ﷺ وجدّهم واجتهادهم في القَدْحِ فيه والطعن في دينه.
واعلم أنّ الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن.
قال ابن عباس رضي الله عنه :« وكان يخاطب في التوراة بقوله : يا أيها المَسَاكين ».

فصل في لفظ راعنا


روي أن المسلمين كانوا يقولون : راعنا يا رسول الله من المُرَاعاة، أيك راعنا سمعك أي فَرّغ سمعك لكلامنا، يقال : رعى إلى الشيء وَرَعَاه، أي : أَصْغى إليه وأسمعه، وكانت هذه اللفظة شيئاً قبيحاً بلغة اليهود.
وقيل : معناه عندهم اسمع لا سمعت.
وقيل : هو من الرُّوعنة، وإذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا : راعنا بمعنى يا أحمق، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهمك كنا نسبُّ محمداً سرًّا، فأعلنوا به الآن، فكانوا يأتونه ويقولون : راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن مُعَاذٍ، ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود : لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه سولم لأضربن عُنُقه قالوا : أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولوا : رَاعِنَا ﴾ لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلاً إلى شَتْم رسول الله ﷺ ﴿ وَقُولُوا أنْظُرْنَا ﴾ ويدلّ على هذا قوله تعالى في سورة « النساء » :﴿ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين ﴾ [ النساء : ٤٦ ].
قال قُطْرب : هذه الكليمة وإن كانت صحيحة المعنى، إلاّ أن أهل « الحجاز » ما كنةوا يقولونها إلاّ عند الهَزْل والسخرية، فلا جرم نهى الله عنها.
وقيل : إن اليهود كانوا يقولونك راعنا أيك أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها.
وقيل : قوله :« راعنا » خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول : راعِ كلامي فلا تغفل عنه، ولا تشتغل بغيره، وليس في قوله :« انظرنا » إلا سؤال الانتظار إلى مقدار ما يصل إلى فهم كلامه.
والجمهور على أن « راعنا » أمر من المُرَاعاة، وهيى النظر في مصالح الإنسان، وتدبر أموره، و « راعنا » يقتضي المشاركة؛ لأن معناه : ليكن منك رعاية لنا، وليكن منا رعاية لك، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه مساواتهم به ﷺ.
وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول ﷺ في المُخَاطبة كما قال تعالى :﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ [ النور : ٦٣ ].
وقرأ الحسن وابو حيوة :« رَاعِناً » بالتنوين، ووجهه أنه صفة لمصدر محذوف، أي : قولاً راعناً، وهو على طريق النسب ك « لابنٍ ] و » تامِرٍ «، والمعنى : لا تقولوا قولاً ذا رُعونَةٍ.


الصفحة التالية
Icon