اعلم : أنه، سبحانه وتعالى، لمَّا قرَّر التوحيد بالدلائل العقلية القاطعة، أردفه بتقبيح ما يضاده؛ لأنَّ تقبيح ضد الشيء مما يوكِّد حسن الشَّيء.
قال الشاعر :[ الكامل ]
٨٧٦ -..................... | وَبِضِدِّهَا تَتَبَيِّنُ الأَشْيَاءُ |
قوله تعالى :« مَنْ يَتَّخِذُ » « مَنْ » : في محلِّ رفع بالابتداء، وخبره الجارُّ قبله، ويجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولةً.
والثاني : أن تكون موصوفةً.
فعلى الأوَّل : لا محلَّ للجملة بعدها. وعلى الثاني : محلُّها الرَّفع، أي : فريقٌ، أو شخصٌ متَّخذٌ، وأفرد الضمير في « يَتَّخِذُ » ؛ حملاً على لفظ « مَنْ » و « يَتَّخِذُ » : يفتعل، من « الأَخْذ »، وهي متعدِّية إلى واحد، وهو « أنداداً ».
قوله تعالى :« مِنْ دُونِ اللَّهِ » : متعلِّق ب « يَتَّخِدُ »، والمرابد ب « دُونِ » [ هنا « غَيْرَ » ]. وأصلها إذا قلت :« اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقاً »، أصله : اتخذت من جهةٍ ومكانٍ دون جهتك، ومكانك صديقاً، فهو ظرف مجازيٌّ، وأذا كان المكان المتَّخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطَّةً عنه، ودونه؟ لزم أن يكون غيراً، [ لأنه ليس إيَّاه، ثم حُذِف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، مع كونه غيراً ]، فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق، لا بطريق الوضع لغةً، وتقدَّم تقرير شيء من هذا أوَّل السُّورة.
فصل في اختلافهم في المراد بالأنداد
اختلفوا في « الأَنْدَاد »، فقال أكثر المفسِّرين : هي الأوثان التي اتَّخذوها آلهةً، ورجعوا من عندها النف والضُّرَّ، وقصدوها بالمسائل، وقرَّبوا لها القرابين؛ فعلى هذا : الأصنام بعضها لبعضٍ أندادٌ أي أمثالٌ، والمعنى : أنَّها أندادٌ لله تعالى؛ بحسب ظنونهم الفاسدة.
وقال السُّدِّيُّ : إنَّها السَّادة الَّذين كانوا يطيعونهم، فيحلون لمكان طاعتهم في أنَّهم يحلُّون ما حرّم الله، ويحرِّمون ما أحلَّ الله؛ ويدلُّ على هذا القول وجوه :
الأوَّل : ضمير العقلاء في « يُحِبُّونَهُمْ ».
والثاني : يبعد أنَّهم كانوا يحبُّون الأصنام كحبِّ الله تعالى، مع علمهم بأنها لا تضر، ولا تنفع.
الثالث : قوله بعد هذه الآية :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا ﴾ [ البقرة : ١٦٦ ] ؛ وذلك لا يليق إلاَّ بالعقلاء.
وقال الصُّوفية : كلُّ شيءٍ شغلت قلبك به سوى الله تعالى، فقد جعلته في قلبك ندّاً لله تعالى؛ ويدلُّ عليه قوله تبارك وتعالى :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ].
قوله تعالى :« يُحِبُّونَهُمْ » في هذ الجلمة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون في محلِّ رفع؛ صفة ل « مِنْ » في أحد وجهيها، والضمير المرفوع يعود عليها؛ باعتبار المعنى، بعد باعتبار اللَّفظ في « يَتَّخِذُ ».