والمرادُ بهذه الآية -زيادة تأكيد التسليةِ والمبالغةِ في إزالة الحُزْنِ عن قلبه؛ لأن مَنْ علم أن عاقبته الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان، ولأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء، [ والمُحِقُّ من المُبْطِل ].
قوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ﴾ مبتدأ وخبر، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة.
والجمهور على « ذَائِقَةٌ المَوْتَ » بالتنوين والنَّصْب في « الْمَوْتِ » على الأصل.
وقرأ الأعمشُ بعدم التنوين ونَصْب « الْمَوْت » وذلك على حَذْف التنوين؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعرِ :[ المتقارب ]

١٧٠٤- فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا
-بنصب الجلالة- وقراءة مَنْ قرأ ﴿ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله ﴾ [ الإخلاص : ١، ٢ ] - بحذف التنوين من « أحَدٌ » لالتقاء الساكنين.
[ ونقل ] أبو البقاء -فيها- قراءةً غريبةً، وتخريجاً غريباً، قال :« وتقرأ شاذاً -أيضاً- ذَائِقُهُ الْمَوْتُ على جعل الهاء ضمير » كل « على اللفظ، وهو مبتدأ وخبرٌ، وإذا صحت هذه قراءةٌ فتكون » كل « مبتدأ، و » ذَائِقُهُ « خبر مقدَّم، و » الْمَوْتُ « مبتدأ مؤخرٌ، والجملة خبر » كُلّ « وأضيف » ذائق « إلى ضمير » كل « باعتبار لفظها، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس، قَلْباً للكلامِ؛ لفهم المعنى، كقولهم : عَرَضْتُ الناقة على الحوض، ومنه قوله :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار ﴾ [ الأحقاف : ٣٤ ] وقولك : أدخلت القلنسوة في رأسي.
وقول الشَّاعرِ :[ البسيط ]
١٧٠٥- مِثْلُ القَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ نَجْرَانَ، أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجَرُ
الأصل : عرضت الحوض على الناقة، ويوم تُعْرَض النار على الذين كفروا، وأدخلت رأسي في القلنسوة، وبلغت سوآتهم هَجَرَ، فقلبت. وسيأتي خلافُ النّاسِ في القلب في موضعه إن شاء الله -تعالى-.
وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا التأنيث في »
ذائقة « إنما هو باعتبار معنى » كلٍّ « قال :» لأن كل نفس نفوس، فلو ذكر على لفظ « كل » جاز، يعني أنه لو قيل :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ﴾ جاز، وقد تَقَدَّمَ أول البقرة أنه يجب [ اعتبار ] لفظ ما يُضافُ إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر « كل » وتحقيق هذه المسألةِ هناك.

فصل


قال ابنُ الخطيبِ : هذه الآية من تمام التسلية لرسول الله ﷺ إما بأن غموم الدنيا يقطعها الموتُ، وما كان كذلك لا ينبغي للعاقل أن يَلْتَفِتَ إليه. وإما لأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء، فلا يُلْتَفَت إلى غَمِّ الدنيا وبُؤْسِها.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾


الصفحة التالية
Icon