في سَبَي النُّزُولِ قَوْلان :
الأوّل : قال عَطَاء ومُجَاهِد والشَّعْبِي : نزلت في قِصَّة المُنَافِقِ واليَهُودِيّ اللَّذين اخْتَصَما إلى عُمر. الثاني : روي عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر؛ « أنه رجُلاً من الأنْصَار قد شهد بَدْراً مع رسُول اللَّه ﷺ في شِرَاجٍ مِنَ الحرَّة، وكانَا يَسْقِيَانِ به كلاهما، فقال رسُول اللَّه ﷺ للزُّبَيْر : اسْقِ يا زُبَيْر، ثم أرْسِلْ إلى جَارِكَ، فغَضِب الأنْصَارِيُّ، وقال : أن كان ابنُ عَمَّتِكَ؟ فتلوّن وَجْهُ رسُولِ الله ﷺ، ثم قال للزُّبَيْر : اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجع إلى الجِدْرِ » واعلم [ أن الحكم ] أن مَنْ كَان أرْضُهُ أقْربَ إلى فَمِ الوَادِي، فهو أوْلَى [ بأَوَّل ] المَاءِ، وحَقُّهُ تَمَام السَّقْي، فالرَّسُول ﷺ ِ أَذِن للزُّبَيْر في السَّقْي على وَجْهِ المُسَامَحَةِ [ ابْتدَاء ]، فلما أسَاءَ خَصْمُهُ الأدَب، ولم يعرف حَقَّ ما أمَرَهُ به الرَّسُولُ -E- من المُسَامَحَةِ لأجْلهِ، أمَرَهُ النَّبِي -عليه السلام- باسْتِيفَاءِ حَقِّه على التَّمَامِ، وحَمْل خَصْمِهِ على مُرِّ الحَقِّ.
قال عروة بن الزُّبَيْر :[ أحسبُ هذه الآية نزلَتْ في ذلِك، وروي أن الأنْصَارِي الذي خاصَمَ الزُّبَيْر ] كان اسْمُهُ حَاطِب بن [ أبِي ] بَلْتعة، فلما خَرَجَا مَرَّ على المِقْدَاد. فقال : لمن كان القَضَاءُ فقال الأنْصَارِيّ : قَضَى لابْن عَمَّتِهِ، ولَوَى شِدْقَيْه، فَفَطِنَ له يَهُودِيٌّ كان مع المِقْدَادِ، فقال : قَاتَل اللَّه هَؤلاء، يَشْهَدُون أنَّهُ رسول اللَّهِ ثم يتهمُونَهُ في قَضَاء يَقْضِي بَيْنَهُم، وأيْمُ اللَّه لقد أذْنَبْنَا ذَنْباً مَرَّة في حَيَاةِ مُوسَى -E- فدعانا مُوسَى إلى التَّوْبَةِ مِنْهُ، فقال : فاقْتُلُوا أنفُسَكُم ففعلنا، فبلغ قَتْلاَنا سَبْعِين ألْفاً في طَاعَةِ رَبِّنا، حتىَّ رَضِيَ عَنَّا. فقال ثَابِت بن قَيْس بن شماس : أما واللَّه إنَّ الله لَيَعْلَمُ منّي الصِّدْق، ولو أمَرَنِي مُحَمَّد ن أقْتُل نَفْسِي، لَفَعَلْتُ، فأنزل اللَّه في شَأنِ حَاطِب بن أبِي بَلْتَعَة هَذِه الآية.
قوله :« فلا وربك لا يؤمنون » فيه أربعة أقْوالٍ :
أحدها : وهو قَوْلَ ابن جَرِير : أن « لا » الأولَى ردّ لِكَلاَم تَقَدَّمَها، تقديرُه : فلا تَعْقِلُون، أو لَيْس الأمْر كما يَزْعُمُون من أنَّهمُ آمَنُوا بما أنْزِل إلَيْك، وهُم يُخَالِفُون حُكْمَكَ، ثم اسْتأنَفَ قَسَماً بعد ذَلِك، فعلى هذا يَكُون الوَقْفُ على « لاَ » تَامّاً.
الثاني : أن « لا » الأولَى قُدِّمت على القَسَمِ اهْتِمَاماً بالنَّفْي، ثم [ كُرِّرت ] توكيداً للنَّفْي، وكان يَصِحُّ إسقاط الأولى، ويَبْقَى مَعْنَى النَّفْي، ولكن تَفُوت الدَّلالة على الاهْتِمَامِ المذكور، [ وَكَان يَصِحُّ إسْقَاطُ الثَّانِية ويبقى مَعْنَى الاهْتِمَامِ، ولكن ] تفُوت الدَّلالةَ على النَّفْي، فَجَمَعَ بينهما لذلك.
الثالث : أن الثَّانِية زَائِدةٌ، والقَسَم معْتَرِضٌ بين حَرْفَي النَّفْي والمَنْفِيّ، وكان التقدير : فلا يُؤمِنُون وَرَبُّك.
الرابع : أن الأولى زائدةٌ، والثَّانِيَة غير زائدة، وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَرِي؛ فإنه قال :« لا » مزيدةٌ لتأكِيد مَعْنَى القَسَمِ؛ كما زِيدَتْ في


الصفحة التالية
Icon