قوله -تعالى- :« فما لكم » : مبتدأ وخَبَر، و « في المنافقين » فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : انه متعلِّقٌ بما تعلَّق الخَبَرُ، وهو « لكم »، أي : أيُّ شَيْءٍ كائنٌ لكم -أو مُسْتَقِرٌّ لكم- في أمْر المُنَافِقِين.
والثاني : أنه مُتَعَلِّق بمعنى فئتين، فإنَّه في قُوَّة « مال كم تفترقون في أمور المنافقين » فحُذِف المُضافُ، وأُقيم المُضَافُ إليه مقامه.
والثالث : أنه مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من « فئتين » ؛ لأنه في الأصْل صفةٌ لها، تقديرُه : فئتين مُفْترِقَتَيْن في المُنَافِقِين، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها، انتصبَتْ حَالاً.
وفي « فئتين » وجْهَان :
أحدُهما : أنها حالٌ من الكافِ والميم في « لَكُم »، والعَامِلُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به « لَكُم » ؛ ومثله :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ] وقد تقدَّم أنَّ هذه الحَالُ لازمةٌ؛ لأن الكلامَ لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البَصْرِيَِّين في كل ما جَاءَ من هذا التَّرْكِيب.
والثاني -وهو مذهب الكوفيين- : أنه نَصْبٌ على خَبَر « كان » مُضْمَرةً، والتقدير : ما لَكُم في المُنَافِقِين كنتم فئتين، وأجَازوا :« ما لك الشاتم » أي : ما لك كُنْتَ الشَّاتِمَ، والبَصْرِيُّون لا يُجِيزُون ذلك؛ لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف، ويدلُّ على كَوْنِهِ حالاً التزامُ مَجِيئه في هذا التَّركِيب نَكِرةً، وهذا كما قالُوا في « ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً » : إنَّ « قائماً » لا يجُوز نصبُه على خَبَر « كان » المُقَدَّرةِ، بل على الحَالِ؛ لالتزامِ تَنْكيره. وقد تقدَّم اشتِقَاقُ « الفِئَة » في البقرة.

فصل


قال قوم : نَزَلت في الذين تخَلَّفُوا يَوْمَ أحُد من المُنَافِقِين، وقالوا :﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٧ ]. فاختلف أصْحَاب الرَّسُول -E- : فقالَتْ مَنْهُم فرقة : كَفَرُوا، وآخَرُون قالوا : لَمْ يَكْفُرُوا، فنزلت الآية؛ وهو قول زَيْد بْنِ ثَابِت وطُعِن في هذا الوَجْهِ : بأن في نَسَقِ الآية ما يَقْدَحُ فيه وأنَّهم من أهْل مكَّة؛ وهو قوله :﴿ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ ﴾.
وقال مُجَاهِد : هم قَوْم خَرَجُوا إلى المَدِينَة، وأسْلَمُوا ثم ارْتَدُّوا، واسْتَأذَنُوا رسُول الله ﷺ إلى مَكَّة؛ ليأتوا بِبِضَائِع لَهُم يتَّجِرُون فيها، فَخَرَجُوا وأقَامُوا بمكَّة، فاختلف المسلمون فيهم : فقائل يَقُول : هم مُنَافِقُون، وقائل يَقُول : هُمْ مُؤْمِنُون.
وقيل : نزلت في نَاسٍ من قُرَيْش قَدِمُوا المَدِينَةَ، وأسْلَمُوا ثم نَدِمُوا على ذلك، فَخَرَجُوا كهيئة المُتَنَزِّهِين حتى بَعُدوا عن المدينة، فكتَبُوا إلى رسُول الله ﷺ : إنَّا عَلَى الَّذِي وافقْنَاك عليه من الإيمَانِ، ولَكِنَّا اجتوينا المدينة واشْتَقْنَا إلى أرْضِنا، ثم إنَّهُم خرجوا في تجارةٍ لَهُم نحو الشَّامِ فَبَلَغَ ذَلِك المُسْلِمِين، فقال بَعْضُهم : نخرج إليْهم فنقتلهم ونأخذ ما مَعَهُم؛ لأنَّهم رَغِبُوا عن دِيننَا، وقالت طَائِفة : كيف تَقْتُلون قوماً على دينكُم إن لَمْ يَذَرُوا دِيَارَهم، وكان هَذَا بِعَيْن النَّبِيِّ ﷺ، وهو سَاكِتٌ لا يَنْهَى واحداً من الفَرِيقَيْن؛ فنزلت الآية.


الصفحة التالية
Icon