في :« الذين يتربَّصُون » : ستَّة أوجه :
أحدُها : أنه بدلٌ من قوله :« الذين يتَّخِذُون »، فيجيء فيه الأوْجُه المذْكُورة هناك.
الثاني : أنه نَعْتٌ للمنافِقِين على اللَّفْظِ، فيكون مَجْرورَ المَحَلِّ.
الثالث : أنه تابعٌ لهم على المَوْضِع، فيكونُ مَنْصُوبَ المَحَلِّ، وقد تقرَّر أنَّ اسم الفاعل العامِل إذا أُضيفَ إلى مَعْمُوله، جاز أن يُتْبَعَ مَعْمُولُه لفظاً وموضعاً، تقول :« هذا ضاربُ هندٍ العاقلةِ والعاقلةَ » بجرِّ العاقلة ونصبها.
الرابع : أنه منصوبٌ على الشَّتْم.
الخامس : أنه خَبَر مبتدأ مُضْمَر، أي : هُمُ الذين.
السادس :- وذكره أبو البقاء - أنه مُبْتَدأ، والخبرُ قوله :﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ ﴾، وهذا ضَعِيفٌ؛ لنبوِّ المَعْنَى عنه ولزيادةِ الفاءِ في غير مَحَلِّها؛ لأنّ هذا الموصُولَ غيرُ ظاهر الشَّبهِ باسْمِ الشرط.
فصل في معنى الآية
ومعنى « يتربَّصُون بِكُم » : ينتظرون بكُم الدَّوَائِر، يعنى : المُنَافِقِين، ينتظرون ما يَحْدُث من خَيْر وشَرٍّ، ﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله ﴾ أي : ظهورٌ على اليَهُود، وظَفر، وغَنَيِمة، ﴿ قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ ﴾ على دينكُم وفي الجِهَاد كنَّا معَكُم، فأعْطُونا قِسْماً من الغَنِيمَةِ، ﴿ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ﴾ يعني : ظَفرٌ على المُسْلِمِين، « قَالُوا » : يعني : المُنَافِقِين للكافرين :﴿ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ﴾ والاستحواذ : الاستيلاء والغَلَبة على الشَّيْء، ومنه :﴿ استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان ﴾ [ المجادلة : ١٩ ]، ويقال : حَاذَ وأحَاذَ بِمَعْنًى؛ والمصدر : الحَوْذ، وفي المَعْنَى وُجُوهٌ :
الأول : أن المَعْنَى : ألم نَغْلِبكُم، ونتمكَّن من قَتْلِكُم وأسركُم، ثم لم نَفْعَل شَيْئاً من ذَلِك، ﴿ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين ﴾ أي : نَدْفَع عَنْكُم صولة المُؤمِنين بِتَخْذِيلهم، وتوانينا في مُظاهَرَتِهم، فأعطونا نَصِيباً ممَّا أصَبْتُم.
الثاني : قال المُبَرِّد : يقول المُنَافِقُون للكفَّار : ألم نَغْلِبْكُم؛ فإن المُنَافِقِين بالغُوا في تَنْفِير الكَافِرِين، وأطْمَعُوهم أنه سَيضْعُفُ أمر محمَّدٍ، وسَيَقْوى أمركم، فإذا اتَّفَقَتْ للكفَّار دَوْلةٌ على المُسْلِمين، قال المُنَافِقُون : ألَسْنَا غلبناكم على رَأيِكُم في الدُّخُول في الإسْلام، ومَنَعْنَاكُم منه، فلمَّا شاهَدْتُم صِدْق قَوْلِنا، فأعْطُونا نَصِيبَنَا ممَّا أخَذْتُمْ، ومرادُ المُنافقين : إظْهَار المِنَّة على الكَافِرِين بهذا الكلامِ.
الثالث : ألم نُخْبِرْكم بِعَزِيمَةِ محمَّدٍ وأصحابه، ونُطْلِعْكُم على سِرِّهِم.
فإن قيل : لِمَ سَمَّى ظَفر المُسْلِمين فتحاً، وظفر الكُفَّار نَصِيباً.
فالجواب : أنه تعظيم لشأن المُؤمنين، وتحقير لحظِّ الكَافِرِين؛ لأن ظَفر المُسْلِمين أمر عظيم، يفتح الله لَهُ أبْوَاب السَّمَاء؛ حتى تَنْزل الرَّحْمَة على أوْلِيَاء اللَّه، وأما ظَفر الكَافِرِين : فما هُوَ إلا حَظٌّ دنيويٌّ يَنْقَضِي، ولا يَبْقَى منه إلا اللَّوْم في الدُّنْيَا، والعُقُوبة في الأخْرَى.
قوله :« ونمنعكم » الجمهورُ على جَزْمه، عطفاً على ما قبله.
وقرأ ابن بي عَبْلَة بنصب العَيْن وهي ظَاهِرَةٌ؛ فإنه على إضْمَار « أنْ » بعد الوَاوِ المقتَضِيَة للجَمْع في جواب الاستفهامِ؛ كقول الحُطيْئَة :[ الوافر ]
١٨٩٢- ألَمْ أكُ جَارَكُم ويَكُونَ بَيْنِي | وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ والإخَاءُ |