قوله تعالى :﴿ وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم ﴾ الآية، قد تقدم معنى « قفينا » وأنه من قَفَا يَقْفُو أي : تبع قفاه في البقرة [ الآية ٨٧ ] وقوله تعالى :﴿ على آثَارِهِم بِعَيسَى ﴾ كِلاَ الجارَّيْنِ متعلق به على تضمينه معنى « جئنا به على آثارهم قافياً لهم ».
وقد تقدم أيضاً أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذُكِرَتْ هناك، وإيضاحها أنَّ « قَفَا » متعدٍّ لواحد قبل التضعيف، قال تعالى :﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ] ف « ما » موصولة بمعنى « الذي » هي مفعول، وتقول العرب :« قفا فلان أثر فلان » أي : تبعه، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين، فكان التركيب يكون :« ثم قفيناهم عيسى ابن مريم » ف « هم » مفعول ثانٍ، و « عيسى » أول، ولكنه ضُمِّن كما تقدم، فلذلك تعدى بالباء، و « على » قال الزمخشري « » قَفَّيْتُهُ « مثل : عَقَّبْتُهُ إذا أتبعته، ثم يقال :» قَفَّيتُهُ بفلان « مثل : عَقَّبْتُه به : فتعديه إلى الثاني بزيادة » الباء «.
فإن قلت : فأين المفعول الأول؟
قلت : هو محذوف، والظرف الذي هو » على آثارهم « كالسَّادِّ مسدَّه؛ لأنه إذا قَفَّى به على أثره، فقد قَفَّى به إياه، فكلامه هنا ينحو إلى أنَّ » قفَّيته « مضعفاً ك » قفوته « ثلاثياً ثم عدَّاهُ بالباء، وهذا وإن كان صحيحاً من حيث إنَّ » فعَّل « قد جاء بمعنى » فعل « المجرد ك » قدَّرَ وقَدَرَ «، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلى ثانٍ بالباء، لا تقول في » طعم زيد اللحم « :» أطعمت زيداً باللحم « ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع، جاءت منه ألفاظ قالوا :» صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ « ثم يقولون : صككت الحَجَر بالحجر، و » دَفَعَ زيدٌ عَمْراً « ثم : دَفَعْتُ زيداً بعمرو : أي : جعلته دافعاً له، فكلامه إما ممتنع، أو محمول على القليل، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادِّعاء حذف المفعول من نحو » قَفَّيْنَا « في البقرة [ الآية ٨٧ ].
وناقشه أبو حيان في قوله :» فقد قَفَّى به إياه « من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول :» قفيته به «.
قال :» ولو قلت :« زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه » لم يَجُزْ إلا في ضرورة شعر، بل ضربته بسوط «، وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ ﴾ [ الممحنة : ١ ] ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ [ النساء : ١٣١ ] وقد تقدَّم تحقيقه.