قوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا ﴾ : الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرينَ؛ فحينئذ : لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، أي : وإذا جاءَكُمْ ذريتُهم، أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردَةُ والخنازيرُ، لم يَجِيئُوا، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ؛ وذلك على أن يكونَ قولُه ﴿ مَن لَّعَنَهُ الله ﴾ [ المائدة : ٦٠ ] إلى آخره عبارةً عن المخاطَبِينَ في قوله تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الكتاب ﴾ [ المائدة : ١٩ ]، وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضْمَرِ، وكأنه قيل : أنْتُمْ، كذا قاله أبو حيان، وفيه نظرٌ؛ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة ﴾ [ المائدة : ٦٠ ]، تقديره : وجعل من آبائِكُمْ أو أسْلافِكُمْ، أو مِنْ جِنْسِكُمْ؛ لأن المعاصِرِينَ ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهِم، فسواءٌ جعله مِمَّا ذكر أم لا، لا بُدَّ من حذف مضاف.
قوله تعالى :﴿ وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر ﴾ هذه جملةٌ حاليةٌ، وفي العامل فيها وجهان :
أحدهما - وبه بدأ أبو البقاء - : أنه « قَالُوا »، أي : قالُوا كذا في حَالِ دخولهم كفرةً وخُرُوجهم كفرةً، وفيه نظرٌ؛ إذ المعنى يأبَاهُ.
والثاني : أنه « آمَنَّا »، وهذا واضحٌ، أي : قالوا آمنَّا في هذه الحالِ، و « قَدْ » في « وَقَدْ دَخَلُوا » « وَقَدْ خَرَجُوا » لتقريب الماضِي من الحال، وقال الزمخشريُّ :« ولمعنى آخرَ، وهو : أنَّ أماراتِ النفاقِ كانَتْ لائحةً عليهم؛ فكان الرسولُ - عليه السلام - متوقِّعاً لإظهار الله تعالى - ما كتموه، فدَخَلَ حرفُ التوقُّعِ، وهو متعلِّقٌ بقوله » قَالُوا آمَنَّا «، أي : قالوا ذلك وهذه حالهم »، يعني بقوله :« وهُو متعلِّقٌ »، أي : والحال، وقوةُ كلامه تُعْطِي : أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقَوْل، و « بالكُفْرِ » متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من فاعلِ « دَخَلُوا »، فهي حال من حال، أي : دَخَلُوا ملتبسين بالكُفْر، أي : ومعهُمُ الكُفْرُ؛ كقولهم :« خَرَجَ زَيْدٌ بِثيَابِهِ »، وقراءةِ من قرأ :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ]، أي : وفيها الدُّهْنُ؛ ومنه ما أنشدَ الأصمعيُّ :[ الطويل ]

٢٠٠٢- وَمُسْتَنَّةٍ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو فِ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ
أي : ومِرْوَدُهُ فيه، وكذلك « بِهِ » أيضاً حالٌ من فاعل « خَرَجُوا ». فالبَاءُ في قوله تعالى :﴿ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾، يُفيدُ أنَّ الكُفْرَ معهم حالةَ الدُّخُولِ والخُرُوجِ من غيْرِ نُقْصَانٍ، ولا تَغْيِير ألْبَتَّة، كما تَقُولُ :« دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وخَرَجَ » أي : ثوْبُهُ حال الخُرُوجِ، كما كَانَ حَالَ الدُّخُول. وقوله :« وَهُمْ » مبتدأ، و « قَدْ خَرَجُوا » خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولَى فعليَّةً والثانيةُ اسميةً؛ تنبيهاً على فرطِ تهالِكهم في الكُفْرِ؛ وذلك أنهم كان ينبغي لهم، إذا دخلُوا على الرسول - ﷺ - أنْ يُؤمنُوا؛ لِما يَرَوْن من حُسْنِ شيمته وهَيْبَته، وما يظهرُ على يديهِ الشريفة من الخوارقِ والمعجزاتِ؛ ولذلك قال بعض الكَفَرَةِ :« رَأيْتُ وَجْهَ مَنْ لَيْسَ بِكَذَّابٍ »، فلمَّا لم يَنجَعْ فيهم ذلك، أكَّد كفرهم الثاني بأنْ أبْرَز الجملة اسميةً صدْرُها اسمٌ، وخبرها فعلٌ؛ ليكون الإسنادُ فيها مرتين، وقال ابن عطية :« وقوله :» وَهُمْ « تخليصٌ من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكُفْرِ، ثم يؤمنوا، ويخرجَ قومٌ، وهم كَفَرَة، فكان ينطبِقُ على الجميع، وهم قد دخلوا بالكفر، وقد خَرَجوا به، فأزال اللَّهُ الاحتمال بقوله :﴿ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾، أي : هُمْ بأعيانهم »، وهذا المعنى سبقه إليه الواحديُّ، فبسطه ابن عطيَّة، قال الواحديُّ :﴿ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾ أكَّد الكلام بالضَّمير، تعييناً إياهم بالكفر، وتمييزاً لهم عن غيَرِهِمْ، وقال بعضهم : معنى « هُم » التأكيدُ في إضافة الكُفْر إليهم، ونَفْيِ أن يكون من الرسولِ ما يوجبُ كفرَهُمْ؛ مِنْ سوءِ معاملته لهم، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ، فالمعنَى : أنهم هم الذين خَرَجُوا بالكُفْر باختيار أنفُسِهِمْ، لا أنَّكَ أنْتَ الذي تسبَّبْتَ لبقائِهم في الكُفْر، وقال أبو البقاء :« ويجوز أن يكون التقديرُ : وقد كانوا خرجُوا به »، ولا معنى لهذا التأويلِ، والواوُ في قوله تعالى :﴿ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾ تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلها.


الصفحة التالية